●¦ دَمعْــٍہ وفْــآ ¦●
عضو نشيط
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(سورة البقرة 102)
لم يعد في وسعِها احتمال الضحكات المنبعِثة من خلف البابِ المغلق..الضحكات التي تحلق كسربٍ من العصافيرِ في تسبيحةِ الغروبِ عائدةً لأعشاشها في السدرةِ المنتصبة بخشوعٍ في الباحةِ الخلفية للمنزل..
اقتربت على أطرافِ أصابِعِها في سعيٍ فضوليٍ نحو الباب وألصقت أذنها المتلصِصة بحذرٍ تسترق ما يفوتها من أحاديثِ المَساءِ الحميمة …تتمنى لو يستطيع ُ بصرُها أن يخترِق الباب لِترى ما يَدور بينهما ..أو أن الجدارَ يشي لها بحكاياهم السرية ..ولكنهم يتهامسون ..وهي تكره الهمس …تكرهُ أن تَفوتها شاردةً أو واردة …اقتربت أكثر وازدادت التصاقاً بالباب.. وأخيراً سمِعتهم يتفقون على الخروجِ لأحدِ المَطاعِمِ للعشاء…
تراجعت بِغيظٍ لغرفتها الواقعة في الطابقِ السفلي … وأخذت تذرع غرفتها الكئِيبة ذهاباً وإياباً كعنكبوت الأرملةِ السوداء.. تغزِل أفكارها شبكةً ملعونةً من المَكائدِ الخفِية ..وبعدَ أن اكتملَ غزلها قبعت تنتظر وقوع الفريسةً بينَ براثنها …
حملت هاتفها وكعادتِها حين تود استدعائه تركته يرن بِضع رنات و قَطعَتِ الاتصال قبل أن يرد …وكما توقعت.. قبل أن تكتمِل الدقيقة سمٍعت طَرقه المألوفِ على الباب
تمددت على السَّرير وغطَّت جسدها حتى لم يظْهر منها سِوى رأسها المدور كقرصٍ متغضنِ الملامح وأجابت بصوتٍ منهكٍ وأتبعته بسعالٍ مفتعل : أُح أُح ..أدخل.. أُح أُح
فتح الباب بِهدوء, ووقف بالقرب من السريرٍ باسماً..ولكنَه حين لَمح أشباه دموع في عينيها وسمِع شهقاتها المضطَرِبة انحنى بقلقٍ على وجهِها ووضع يده على رأسها كأنه يقيس حرارتها ومدَّ اليَد الأُخرى بِحنانٍ لِيمسح آثار الدمعِ من وجنتِها المتجعَدة
هل أنتِ بخيرٍ يا أمي ؟..
فتحشرجت الكلمات وهي تخرج من فَمِها
أو هكذا أرادتها أن تبدو ضَعيفةً مشوبةً ببحة :
- آه ..قلـ ..بي يا بني أ ..أنا متعبة وأنتَ لاهٍ لا تدري عني ..وكأنك نسيتني أوَ لست أُمك التي أفنتْ عُمرها في سبيلِ سعادتك؟؟.. وزفرت زفرةً طويلةً وهي تضع يدها على قلبِها …
لقد حفظ السيناريو الذي تكرر مؤخراً وما عليهِ إلا أن يكرِر الكلام المعتاد
-ولكن يا أُمي أنا لم أكن أعلم بأنك متعبة لماذا لم تستدعني عندما أحسستِ بالتعب؟
رمقته معاتبةً :
- كان يجب أن تتفقدني فأنت تعلم بأنني مريضة على الدوام وأختك لم تعد بعد من بيت خطيبها أما أخوك ذاك الجاحد العديمِ الجدوى فهو لاهٍ في عربدتِه ولا يدري إلا عن نفسِه..
أنزل رأسه وهو يحس بالذنبِ كجيشٍ من النّمِل يدبي على جسد ضمِيره …
لا يدري لم تحسسه دائماً وكأنه أذنبَ بِزواجه أو ارتكب منكراً عندما خطا خطوةً للأمام نحو حلمه بزوجة طيبة وأطفال كالملائكة وبيت سعيد..
-آسِف يا أُمي هيَّا قومي مَعي سآخذكِ لِلعيادة حالاً..
والتقطَ مِفتاح سيارته بِسرعة ونادى زوجته نهى لتساعده في نقلِها للسيارة..وهناك تقدمت بِجسدِها للباب الأمامي وألقت بثِقلِها على المقعد ..لم تتنازل أبداً عن المقعدِ الأمامي حتى بعدَ أن تزوج ابنها ..ولن تتنازل عنه حتى وإن كانت تحتضِر..
هل أنتِ بخيرٍ يا أمي ؟..
فتحشرجت الكلمات وهي تخرج من فَمِها
أو هكذا أرادتها أن تبدو ضَعيفةً مشوبةً ببحة :
- آه ..قلـ ..بي يا بني أ ..أنا متعبة وأنتَ لاهٍ لا تدري عني ..وكأنك نسيتني أوَ لست أُمك التي أفنتْ عُمرها في سبيلِ سعادتك؟؟.. وزفرت زفرةً طويلةً وهي تضع يدها على قلبِها …
لقد حفظ السيناريو الذي تكرر مؤخراً وما عليهِ إلا أن يكرِر الكلام المعتاد
-ولكن يا أُمي أنا لم أكن أعلم بأنك متعبة لماذا لم تستدعني عندما أحسستِ بالتعب؟
رمقته معاتبةً :
- كان يجب أن تتفقدني فأنت تعلم بأنني مريضة على الدوام وأختك لم تعد بعد من بيت خطيبها أما أخوك ذاك الجاحد العديمِ الجدوى فهو لاهٍ في عربدتِه ولا يدري إلا عن نفسِه..
أنزل رأسه وهو يحس بالذنبِ كجيشٍ من النّمِل يدبي على جسد ضمِيره …
لا يدري لم تحسسه دائماً وكأنه أذنبَ بِزواجه أو ارتكب منكراً عندما خطا خطوةً للأمام نحو حلمه بزوجة طيبة وأطفال كالملائكة وبيت سعيد..
-آسِف يا أُمي هيَّا قومي مَعي سآخذكِ لِلعيادة حالاً..
والتقطَ مِفتاح سيارته بِسرعة ونادى زوجته نهى لتساعده في نقلِها للسيارة..وهناك تقدمت بِجسدِها للباب الأمامي وألقت بثِقلِها على المقعد ..لم تتنازل أبداً عن المقعدِ الأمامي حتى بعدَ أن تزوج ابنها ..ولن تتنازل عنه حتى وإن كانت تحتضِر..
جلَست نهى في المقعدِ الخلفي صامتةً كعادتها في حضورِ حماتِها بعد أن اعتادتْ منها تسفيهِ أحاديثها والاستئثارِ بالاهتمامِ بأسلوبٍ فض إذ يجبْ تسليط الضوءِ عليها هي فقط حين تكونُ حاضِرة..
تاَوّهت..وكحت وزفرت ..ولم تنسى أن تذرِف بِضع دمعات مفعلَة ريثما وصلوا للعيادة الخاصة ..إنها حقاً تستحق جائزة الأوسكارِ عن تمثيلها المتقن هذا ..مع أن الجالسة في الخلف لا تعتقد ذلك …
وهناك تم إجراء الفحوصات اللازمة وقياس السكرِ والضغط ..كانت واثقة بأن الطبيب سيجد بها عِلَةً ما ..فقائمةُ أمراضها الجسدية تطول/بِغض النظر عن قائمة عاهاتها النَّفسية الأطول..
وفعلاً فقد كانَ ضغطُ الدمِ مرتفِعاً قليلا ..وقد ازدادت حِدة ضغطِها منذ أن فاتحها جلال ..بِكْرها المقرّب برغبته في الاستقرارِ ببيتِ منفرِد..
وهكذا استطاعت إفساد أُمسيتهم الشاعرية كما خطَّطت بِدهاء..
كان جلال يقودُ السيارة في مِشوارِ العودة للمنزل و ذهنه مشغول بِفكرةٍ واحدة فقط تتطايرُ في رأسِهِ كذُبابةِ مجْنونة ..يتمنى لو أنَّ أزيزها يخرس قليلاً ..هذه هي المرة الثالثة في هذا الأُسبوع التي نرتاد فيها العيادة والطبيبُ يؤكد في كل مرةٍ بأنها على ما يرام وما عليها إلا أن تنتبه للملح في طعامِها حتى تحافظ على مُستوى الضغط وأن تبتعد عن الانفعال. .الأمرُ الأول مقدور عليه ولكن الثاني أشك في ذلك ..الانفعال هو الدينامو المحرك لحياة والدتي هو الجذوة التي تبقيها مشتعلة بالنشاط.. إنها تنفعل لأبسط الأشياء تنفعل عندما لا تسيرُ الأمورِ على هواها..تنفعلُ عندما يعترضُ أو حتى يمتعِض أحد على قرار من قراراتها الصارمة ..تنفعل على الخادمة حين تكثر من الملحِ في السلطة وحتى على العصافيرِ في السدرة القابعة كعجوزٍ في باحةِ المنزل…
وهو يعلم سبب هذا الانفعال الأخير ..إنها تحاول التأثير على قرارهِ بالانتقالِ إلى سكنٍ مستقل..وهو مضطر لذلك فالأمور ليست مستتِبة بينها وبين زوجته والمناوشات التي لا تنطفئ بينهما تزعجهُ كثيراً فهي لم تستلطِف نهى منذ أول يومٍ دخلت فيه المنزل كما أنه سئم معاملتها له كطفلٍ لم يفطم بعد ..سئم تدخلها المستمر في كل كبيرةٍ وصغيرةٍ في حياته..عصبيتها …ونوباتِ صراخها .. ولكنها أمه وهو يحبها أكثر من أي شيء في الدنيا..وهو الآن كعصفور مُمَزقٌ بين رغبته في التحليق نحو عشه الذي بناهُ من القش أو البقاء في قفص والدته الذهبي..
آه..ليتها تتركني أتنفسُ قليلا دون أن تحكم خناقها حول رقبتي …
عندما وصلوا للمنزل تمسَّكت بتلابيبهِ وهي تدعي الضعف.. وبالطبع كان عليهِِ أن يداريها وأن يتناولَ العشاءَ معها وإلا فهي ستُضرِب عن الطعام .. وأن يُعطيها دوائها قبل أن تنام فمنذُ وفاة والده وهو على هذه الحال يُمضي جُلَّ وقتهٍِ معها حتى بعد زواجه لم تكترثْ للوضعِ الجديد بل إنها تصر على بقائه حتى وقتٍ متأخرٍ ومع أن نُهى كانت متفهمة وتحاول الاندماج معها وخلق علاقة ود وسلام لكنها لم تكن راغبة بتطفلها ولطالما تركت لديها إحساساً بأنها شخص غريب وغيرُ مرغوبٍ فيه أحياناً بالتلميح و أحياناً أكثر بالتصريح …
أصبحت نهى تتحاشى الاصطدام معها وتبقى في غرفتها أغلب الأوقات وكان هذا الوضع يبدو مريحا لكلا الطرفين ..
أمضت ليلتها بعد أن انسلَّ بِخفةٍ من تحتِ رأسها لِغرفته تفكر وتفكر ..حشدت كل ما تملك من مكرٍ وخديعة لتتمكن من ردعه عن الاستقلال بمنزلٍ خاص ..أولا يكفي بأنه منذ تزوَّج فقدت نصف حبِهِ ونِصف اهتمامِهِ ,ونصف وقته ,والأهم نصف راتبه !!
كيف لها أن تحقق مبتغاها وتسترجعَ ما كان لها في الأساس…كيف؟؟ ولم يغمض لها جفنٌ قبل أن تطفو في ذِهنها فكرةً شيطانيةً من مُستنقعِ أفكارها النتنة…
حركت الخاتم الماسيّ في إصبعها وأدارته وهي تبتسم ابتسامةً خبيثة..
-” كما أحكمتُ قبضتي من قبلُ على والدكَ المرحوم …سأُحكمُ قبضتي عليك ولن أتركك تتسربُ من بين أصابعي ..ليس بعد الآن “
تصاعد الدخان كثيفاً ينفث سواده وكأنه أذرعةً تمتد لِخنق هواء الغرفةِ وتستبيح شفافيته برائحةٍ كريهةٍ خانِقة كالفلْفلِ المحترق بعدَ أن أَلقتْ في قلبِ المِجْمَر حَفْنَةً من الأعشابِ الغريبة ِ المنتقاة بِعناية وكأنها تركيبة كيميائية معقدة وهي تتفوه بِكلِماتٍ لا يفك طَلاسمها ولا يفهمُ ماهيةَ أسرارها سِوى عليم بالسحر الأسودِ والشعوذة …
كان الظلام الحالك يتفشى بهدوءٍ.. يخترِقه بصِيص ضئيل من ضوءِ القمرِ القابع في منْزِلَةِ الإكليل* تِلكَ المنزلةُ التي تَمتزجُ بالنحسِ وتَنْحطّ فيهِ روحانيةً تجذب الفتن والبغضاء …
غَنغمت تستدعي أحد أبناء إبليس بتلاواتٍ شيطانية وقد انقلبَ سَوادُ عينيها إلى بياضٍ مُخيف ..ولأولِ مرةٍ يكونُ للبياضِ معنىً آخر غير النَّقاءِ والطهارةِ.. وارتعش جسدها واشتدت غمغمَها وهي تستَل من بطنِ الأرضِ السبِخةِ من جوف نارِ السّمومِ عفريتاً من الجان…
عادت وألقت حفنة أُخرى بعد أن حضر الكائن الناري فغشي الغرفة ضبابٌ رهيب وقامتْ بالتسخيرِ والعقدِ بسحرٍ لا يُقهر من بقايا هاروت وماروت وعقدت اتفاقها مع إبليس وكادت كيدا …
لم تعد العصافير تُحلق في تسبيحةِ الغُروب.. والعصفور العاشِقُ لم يعُد راغباً في العودةِ إلى عُشِّه.. وأحاديثُ المساء الحميمة لم تعد حميمة بل لم يعد هُنالك من أحاديثٍ سوى الصمت الذي تحوَّلَ مع مرورِ الأيامِ إلى سورٍ شاهقٍ لا يُمكنُ تجاوزهُ ولا حتى بِعصا القفزِ الطويلة …
ولم تكتفي تلك النَفس السقيمةُ بذلك بل بدأت تحفر نفقً تتسع هوته كُلما ألقت فيهِ من سِحرها وشعوذتِها ..لم تعُد راغبةً بوجودِ هذه النهى النَكِدة.. لم يعُد لها من داعٍ …وطِفلها الحبيب سيكتفي بأمَّهِ الحنون… وهكذا حاكتْ الفتنة إثر الفتنة …وعزفتْ على وترٍ نشاز وبتكتيكٍ جهنمي مدروس تحوَّل الصمت إلى قنبلةٍ موقوتةٍ أشعلت فتيلها بعد أن سكبتْ من الأكاذيب المغمسةِ بسُمِّها النقيعِ في أُذنهِ حتى تشبَعت … فالوشايةُ كانت هِوايتها المُفضلة واختلاقُ الأمورِ وتحويرِها فنٌ لا يُضاهِيها فيهِ أحد ..عدا عن احترافها الكذِب بإتقان…
كان الانفجار مدوياً في القلوبِ والخسائر شاسعة في المشاعر…
والحرائق المشتعلة لم يخمدها سوى ورقة بيضاء كغيومٍ صيفيةٍ تلبَّدت في غيرِ أوانها فكان الهُطولُ بالأسودِ المَّقيتِ الذي سالَ بِنَزقٍ مقرِفٍ في حروفِ كلمة “طالق”…
هو لم يفهم كيف انقلبت الأمور هكذا فُجأة ..ولم يفهم لم أصبح يكره زوجته.. ولِمَ أصبحَ يشمئزُّ من وجهها الذي كان في يومٍ ما قِبْلَته… ورائحتها التي كانت في يومٍ ما جنته , وصوتها الذي كان في يوم ما كأعذبِ تغريدٍ لكروانٍ سمعه قط…
لم يفهم سبب غثيانه كلما حاول الاقتراب منها ..ولا قرفه كلما حاول لمسَها ولا لم يحسُ بهذا الصداعٍ الرَّهيبُ الذي ينهال على رأسهِ كمطارق من الحديدِ الصلب تفتكُ بأعصابِهِ عصباً تلو الآخر كلما جَمَعَهُما سرير..وابتعد حيثُ كان الابتعاد لا مفرَ منه..لكنَّ قلبهّ ظلَّ معلقا بها رُغم نُفُوره…
هي على الرغم من رفضها لأن تكون مجرد دميةٍ خيوطها معلقة بأصابعِ اليد الخفية التي تتلاعب بها من وراء الستار وتتحكمُ بمصيرها بجبروتٍ وتعنُّت لا مثيلَ له على الرُّغم من كل ذلك حاولت الاقتراب ..حاولت هَدْمَ السُّور ومن ثم اجتياز النَّفق ..عانتْ كثيرا من فقدانها لنفسها وكرامتها في أثناء ذلك لكنَّها لم تيأس لأنها تُحبه
وإلى جانب معرفتها التي تجلَّت لها منذ أول مواجهة بينهما علِمت بأن أي معركة ستخوضها ويكون الطرف الآخر فيها تلك اليد الخفية فهي ستكون الخاسرة ولاشك ..وكانت النهاية قد كُتبت في ورقة بيضاء.. وما أوحشَ أن يكون للبياض لونٌ آخر .. لونٌ خاذلٌ كالفراق..
أسئلةٌ كثيرة قفزت إلى عقلها كالجراد المنتشر وهي تمسك بتلك الورقة .. أسئلة كانت غائبة عن بالها ولم تنتبه لها إلا مؤخرا.. كانت تحاول أن تجد تفسيرا لكل الأحداث الغريبة التي مرت بها هناك في ذلك المنزل ..فمثلا هي لم تستطع يوما تفسير الوظيفة المرموقة التي هبطت فجأة على ضياء الأخ الأصغر لجلال مع أنه لا يملك سوى الشهادة الإعدادية وعلى الرغم من فشله وعربدته … ولم تستطع تفسير زواج أخته الصغرى سوسن من ثريٍّ كان ينوي في الأصل الزواجَ من إبنة الجيران ..ولا سر الغرفة المقفلة التي تذكر بأنها عندما سألت جلال عنها أخبرها بأن أمه تخصصها للعبادة لأنها لا تود أن يزعجها أحد أثناء أداء صلواتها !! ..هي لا تستطيع حتى ُالآن تفسير أحجية طلاقها …
النفوس الشرهة كالجحيم كلما ألقمتها ما تشتهي قالت هل من مزيد ؟..
وتلك النفس المتعفنة كانت فادحة الشراهة وما آلت إليه الأمور جعلها تحس بالرضا بما أنجزته حتى وإن كانَ على حِسابِ تحطيمِ كيانٍ مقدس له حُرْمَتَهُ عند الله ..أسكرتها نشوة الانتصار وما عادت تسمعُ سوى صدى صوت الشيطان الذي نادمها كأسَ الفوزِ محتفلا ..
وأخيرا تخلصت من خصمِها اللَدود واسترجعت ما كان لها ..حب جلال ووقتُ جلال واهتمام جلال والأهم من ذلك راتب جلال … ولن يتقاسمه معها أحد ..
وحتى ضغطُ دمِها عاد طبيعياً وتحسنت صحتها ..إلا أن روحها المدنسة بالخطايا كانت تهوي للحضيضِ يوماً بعد يوم ..
كان شعرها يزداد ابيضاضاً بعكسِ وجهها الذي يزداد اسوداداً وقلبها الذي يزداد عتمة .. حتى أنها لم تلاحظ ولدها وهو يذوي بين يديها كغصنٍ التهمتهُ نيرانُ أنانيتها ولم تُبقي منهُ سوى الرَّميم …
أشعلت البخور كعادتها وتصاعد الدخانُ كثيفاً وأخذت تُغمغمُ بطلاسِمِها المُبْهمة تُجَدِّدُ عهدها مع إبليسِ الذي تبسَّم وهو يُراقبها حتى بانت أسنانهُ وفركَ كفيهِ طرباً وحرّك ذيله منتشيا ..
- تلميذة نجيبةٌ تفوقت على أُستاذها وفاقتهُ مكراً ودهاءً …
أحست بالدُّوار فتمددت على سريرها وغفتْ على هدهدةِ الشيطان الذي مضى مُبتعداً فلم تعُد بحاجة إليه بعد الآن ..آن له أن يبحثَ عن طريدةٍ أخرى …
وغطت في نومٍ عميق ..عميق لدرجةِ أنه لا يقظةَ من بعده…
وغطت في نومٍ عميق ..عميق لدرجةِ أنه لا يقظةَ من بعده…
الجنازة في طريقها للمقبرة ودموعه تشيعها والقبر فاغر فاه لِيلتقِمها ..توسدت مصيرها الذي كانت في غفلةٍ عنه …وقبل أن يهال التُّرابُ
على جسدِها التفَّت أفعىً سوداء مهولة حول عنقِها وفتحتْ فمها ولدغتْ بأنيابها الحادة وجهها الذي اسْوَدَّ في لحظةٍ واحدة كقِطعةٍ من الفحم ومن هنا انفتحت بوابةَ البَّرزخ على الجحيم ..والأعين… كل الأعين لم يتبقى في صفحة أحداقها من ذكرىً لها سوى الرعب.. الحيرة ..والذهول ….
تمت نوفمبر 25, 2009
كل الود
روائيـة حديثه
روائيـة حديثه