سُـم’ـوٍ إلم’ـشآع’ـرٍ
عضو نشيط
كفى بالموت واعظاً
الحمد لله الذي كتب على عباده الموت والفناء، وتفرد سبحانه بالحياة والبقاء، والصلاة والسلام على من ختمت به الرسل والأنبياء وعلى آله وأتباعه إلى يوم اللقاء.
فإن الموت لا ريب فيه، ويقين لا شك فيه
فلماذا تتكبر أيها الإنسان وسوف تأكلك الديدان؟!
ولماذا تطغى وفي التراب ستلقى؟!
ولماذا التسويف والغفلة وأنت تعلم أن الموت يأتي بغتة؟!
حقيقة الموت
أخي المسلم:
يخطئ من يظن أن الموت فناء محض وعدم تام، ليس بعده حياة ولا حساب ولا حشر ولا نشر ولا جنة ولا نار. إذ لو كان الأمر كذلك لا نتفت الحكمة من الخلق والوجود، ولاستوى الناس جميعاً بعد الموت واستراحوا، فيكون المؤمن والكافر سواء، والقاتل والمقتول سواء، والظالم والمظلوم سواء، والطائع والعاصي سواء، والزاني والمصلي سواء، والفاجر والتقي سواء، وهذا مذهب الملاحدة الذين هم شر من البهائم، فلا يقول ذلك إلا من خلع رداء الحياء، ونادى على نفسه بالسفه والجنون. قال تعالى:
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت غابة كل حي
ولكنا إذا متنا بعـــثناونسأل بعده عن كل شيء
فالموت هو انقطاع تعلق الروح بالبدن، ومفارقتها له، والانتقال من دار إلى دار، وبه تطوى صحف الأعمال،و تنقطع التوبة والإمهال، قال النبي
الموت أعظم المصائب
والموت من أعظم المصائب، وقد سماه الله تعالى مصيبة في قوله سبحانه:
مضى العمر وفات *** يا أسير الغفلات
حصّل الزاد وبادر *** مسرعاً قبل الفوات
فإلى كم ذا التعامي *** عن أمور واضحات
وإلى كم أنت غارق *** في بحار الظلمات
لم يكن قلبك أصلا *** بالزواجر والعظات
بينما الإنسان يسأل *** عن أخيه قيل مات
وتراهم حملوه *** سرعة للفلوات
أهله يبكوا عليه *** حسرة بالعبرات
أين من قد كان يفخر *** بالجياد الصافنات
وله مال جزيل *** كالجبال الراسيات
سار عنها رغم أنف *** للقبور الموحشات
كم بها من طول مكث *** من عظام ناخرات
فاغنم العمر وبادر *** بالتقى قبل الممات
واطلب الغفران ممن *** ترتجي منه الهبات
عبرة الموت
يروى أن أعرابياً كان يسير على جمل له، فخر الجمل ميتاً، فنزل الأعرابي عنه، وجعل يطوف به ويتفكر فيه، ويقول: ما لك لا تقوم؟
مالك لا تنبعث؟
هذه أعضاؤك كاملة!!
وجوارحك سالمة!!
ما شأنك؟
ما الذي كان يحملك؟
ما الذي صرعك؟
ما الذي عن الحركة منعك؟
ثم تركه وانصرف متعجباً من أمره، متفكراً في شأنه!!
قال ابن السماك: ( بينما صياد في الدهر الأول يصطاد السمك، إذ رمى بشبكته في البحر، فخرج فيها جمجمة إنسان، فجعل الصياد ينظر إليها ويبكي ويقول:
عزيز فلم تترك لعزك!!
غني فلم تترك لغناك!!
فقير فلم تترك لفقرك!!
جواد فلم تترك لجودك!!
شديد لم تترك لشدتك!!
عالم فلم تترك لعلمك!! ).
يردد هذا الكلام ويبكي.
اذكروا هاذم اللذات
أخي الكريم:
حث النبي
قال الإمام القرطبي: "قال علماؤنا: قوله عليه السلام: { أكثروا ذكر هاذم اللذات } كلام مختصر وجيز، وقد جمع التذكرة وأبلغ في الموعظة، فإن من ذكر الموت حقيقة ذكره نغص عليه لذته الحاضرة، ومنعه من تمنيها في المستقبل، وزهده فيما كان منها يؤمل، ولكن النفوس الراكدة، والقلوب الغافلة، تحتاج إلى تطويل الوعاظ، وتزويق الألفاظ، وإلا ففي قوله عليه الصلاة والسلام: { أكثروا ذكر هاذم اللذات } مع قوله تعالى:
ولقد أحسن من قال: ( اذكر الموت هاذم اللذات وتجهز لمصرع سوف يأتي ).
وقال غيره: ( اذكر الموت تجد راحةفي ادكار الموت تقصير الأمل ).
أولئك الأكياس
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أتيت النبي
فوائد ذكر الموت
أخي الحبيب: وفي الإكثار من ذكر الموت فوائد منها:
1- أنه يحث على الاستعداد للموت قبل نزوله.
2- أن ذكر الموت يقصر الأمل في طول البقاء. وطول الأمل من أعظم أسباب الغفلة.
3- أنه يزهد في الدنيا ويرضي بالقليل منها، فعن أنس بن مالك
4- أنه يرغّب في الآخرة ويدعو إلى الطاعة.
5- أنه يهوّن على العبد مصائب الدنيا.
6- أنه يمنع من الأشر والبطر والتوسع في لذات الدنيا.
7- أنه يحث على التوبة واستدراك ما فات.
8- أنه يرقق القلوب ويدمع الأعين، ويجلب باعث الدين، ويطرد باعث الهوى.
9- أنه يدعو إلى التواضع وترك الكبر والظلم.
10- أنه يدعو إلى سل السخائم ومسامحة الإخوان وقبول أعذارهم.
أنفاس معدودة
عن ابن مسعود
وقال القرطبي: ( وأجمعت الأمة على أن الموت ليس له سن معلوم، ولا زمن معلوم، ولا مرض معلوم، وذلك ليكون المرء على أهبة من ذلك، مستعداً لذلك ).
وكان بعض الصالحين ينادي بليل على سور المدينة: الرحيل الرحيل. فلما توفي فقد صوته أمير المدينة، فسأل عنه فقيل: إنه قد مات فقال:
ما زال يلهج بالرحيل وذكره *** حتى أناخ ببابه الجمال
فأصابه مستيقظاً متشمراً *** ذا أهبة لم تلهه الآمال
وكان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: ( ويحك يا يزيد! من ذا يصلي عنك بعد الموت؟ من ذا يصوم عنك بعد الموت؟ من ذا يترضى ربك عنك بعد الموت؟ ثم يقول: أيها الناس! ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟ مَن الموت طالبه.. والقبر بيته.. والتراب فراشه.. والدود أنيسه.. وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر.. كي يكون حاله؟ ) ثم يبكي رحمه الله.
بينا الفتى مرح الخطا فرح بما *** يسعى له إذ قيل قد مرض الفتى
إذ قيل بات بليلة ما نامها *** إذ قيل أصبح مثخنا ما يرتجى
إذ قيل أصبح شاخصا وموجها *** ومعللا إذ قيل أصبح قد مضى
وقال التميمي: ( شيئان قطعا عني لذة الدنيا: ذكر الموت، وذكر الموقف بين يدي الله تعالى ).
وكان عمر بن عبدالعزيز
وقال الدقاق: ( من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة، وترك الرضى بالكفاف، والتكاسل في العبادة ).
وقال الحسن: ( إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم، فالتمسوا عشياً لا موت فيه ).
أذكر الموت ولا أرهبه *** إن قلبي لغليط كالحجر
أطلب الدنيا كأني خالد *** وورائي الموت يقفو بالأثر
وكفى بالموت فاعلم واعظاً *** لمن الموت عليه قدر
والمنايا حوله ترصده *** ليس ينجي المرء منهن المفر
موعظة
فتفكر يا مغرور في الموت وسكرته، وصعوبة كأسه ومرارته، فيا للموت من وعد ما أصدقه، ومن حاكم ما أعدله. كفى بالموت مقرحاً للقلوب، ومبكياً للعيون، ومفرقاً للجماعات، وهاذماً للذات، وقاطعاً للأمنيات.
فيا جامع المال! والمجتهد في البنيان! ليس لك والله من مالك إلا الأكفان، بل هي والله للخراب والذهاب، وجسمك للتراب والمآب، فأين الذي جمعته من المال؟ هل أنقذك من الأهوال؟ كلا.. بل تركته إلى من لا يحمدك، وقدمت بأوزارك على من لا يعذرك.
ولقد أحسن من قال في تفسير قوله تعالى:
ونحو هذا قال الشاعر:
هي القناعة لا تبـغ بها بدلاً *** فيهــا النعيم وفيها راحــة البدن
انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل *** راح منها بغير القطن والكفن؟!
فيا أخي الحبيب:
أين استعدادك للموت وسكرته؟
أين استعدادك للقبر وضمته؟
أين استعدادك للمنكر والنكير؟
أين استعدادك للقاء العلي القدير؟
وقال سعيد بن جبير: ( الغرة بالله أن يتمادى الرجل بالمعصية، ويتمنى على الله المغفرة ).
تزود من التقوى فإنك لا تدري *** إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من صحيح مات من غير علة *** وكم من سقيم عاش حينا من الدهر
وكم من صبي يرتجى طول عمره *** وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
الأسباب الباعثة على ذكر الموت
1- زيارة القبور، قال النبي
2- زيارة مغاسل الأموات ورؤية الموتى حين يغسلون.
3- مشاهدة المحتضرين وهن يعانون سكرات الموت وتلقينهم الشهادة.
4- تشييع الجنائز والصلاة عليها وحضور دفنها.
5- تلاوة القرآن، ولا سيما الآيات التي تذكر بالموت وسكراته كقوله تعالى:
6- الشيب والمرض، فإنهما من رسل ملك الموت إلى العباد.
7- الظواهر الكونية التي يحدثها الله تعالى تذكيراً لعباده بالموت والقدوم عليه سبحانه كالزلازل والبراكين والفيضانات والانهيارات الأرضية والعواصف المدمرة.
8- مطالعة أخبار الماضين من الأمم والجماعات التي أفناهم الموت وأبادهم البلى.
سكرات الموت وشدته
أخي المسلم:
إن للموت ألماً لا يعلمه إلا الذي يعالجه ويذوقه، فالميت ينقطع صوته، وتضعف قوته عن الصياح لشدة الألم والكرب على القلب، فإن الموت قد هد كل جزء من أجزاء البدن، وأضعف كل جوارحه، فلم يترك له قوة للاستغاثة أما العقل فقد غشيته وسوسة، وأما اللسان فقد أبكمه، وأما الأطراف فقد أضعفها، ويود لو قدر على الاستراحة بالأنين والصياح، ولكنه لا يقدر على ذلك، فإن بقيت له قوة سمع له عند نزع الروح وجذبها خوار وغرغرة من حلقه وصدره، وقد تغير لونه، وأزبد، ولكل عضو من أعضائه سكرة بعد سكرة، وكربة بعد كربة، حتى تبلغ روحه إلى الحلقوم، فعند ذلك ينقطع نظره عن الدنيا وأهلها، وتحيط به الحسرة والندامة إن كان من الخاسرين، أو الفرح والسرور إن كان من المتقين.
قالت عائشة رضي الله عنها: كان بين يدي النبي
وتشديد الله تعالى على أنبيائه عند الموت رفعة في أحوالهم، وكمال لدرجاتهم، ولا يفهم من هذا أن الله تعالى شدد عليهم أكثر مما شدد على العصاة والمخلطين، فإن تشديده على هؤلاء عقوبة لهم ومؤاخذة على إجرامهم، فلا نسبة بينه وبين هذا.
فيا أيها المغرور:
فما لك ليس يعمل فيك وعظ *** ولا زجر كأنك من جماد
ستندم إن رحلت بغير زاد *** وتشقى إذ يناديك المنادي
فلا تأمن لذي الدنيا صلاحا *** فإن صلاحها عين الفساد
ولا تفرح بمال تقتنيه *** فإنك فيه معكوس المراد
وتب مما جنيت وأنت حس *** وكن متنبها قبل الرقاد
أترضى أن تكون رفيق قوم *** لهم زاد وأنت بغير زاد؟!
يا كثير السيئات غداً ترى عملك، ويا هاتك الحرمات إلى متى تديم زللك؟ أما تعلم أن الموت يسعى في تبديد شملك؟ أما تخاف أن تؤخذ على قبيح فعلك؟ واعجبا لك من راحل تركت الزاد في غير رحلك!! أين فطنتك ويقظتك وتدبير عقلك؟ أما بارزت بالقبيح فأين الحزن؟ أما علمت أن الحق يعلم السر والعلن؟ ستعرف خبرك يوم ترحل عن الوطن، وستنتبه من رقادك ويزول هذا الوسن. قال يزيد بن تميم: ( من لم يردعه الموت والقرآن، ثم تناطحت عنده الجبال لم يرتدع!! ).
رسل ملك الموت
ورد في بعض الأخبار أن نبيا من الأنبياء عليهم السلام قال لملك الموت: أما لك رسول تقدمه بين يديك، ليكون الناس على حذر منك؟ قال: نعم، لي والله رسل كثيرة: من الإعلال، والأمراض، والشيب، والهموم، وتغير السمع والبصر.
وفي صحيح البخاري عن أبى هريرة رضي الله عنه، عن النبي
وأكبر الأعذار إلى بني آدم بعثة الرسل إليهم، ليتم حجته عليهم كما قال سبحانه:
كيف ماتوا؟
أخي الحبيب:
إعلم أن حسن الخاتمة لا تكون إلا لمن استقام ظاهرة وصلح باطنه، أما سوء الخاتمة فإنها تكون لمن كان له فساد في العقل، أو إصرار على الكبائر، وإقدام على العظائم، فربما غلب عليه ذلك حتى ينزل به الموت قبل التوبة، أو يكون مستقيماً ثم يتغير عن حاله، ويخرج عن سننه، ويقبل على معصية ربه، فيكون ذلك سبباً لسوء خاتمته، والعياذ بالله.
صور من سوء الخاتمة
قيل لرجل عند الموت: قل لا إله إلا الله، وكان سمساراً، فأخذ يقول: ثلاثة ونصف.. أربعة ونصف.. غلبت عليه السمسرة.
وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله، فجعل يقول: الدارالفلانية أصلحوا فيها كذا وكذا، والبستان الفلاني أعملوا فيه كذا، حتى مات.
وقيل لأحدهم وهو في سياق الموت: قل لا إله إلا الله، فجعل يغني، لأنه كان مفتوناً بالغناء، والعياذ بالله.
وقيل لشارب خمر عند الموت: قل لا إله إلا الله، فجعل يقول: اشرب واسقني نسأل الله العافية.
صور من حسن الخاتمة
دخل صفوان بن سليم على محمد بن المنكدر وهو في الموت فقال له: يا أبا عبدالله! كأني أراك قد شق عليك الموت، فما زال يهون عليه ويتجلى عن وجه محمد، حتى لكأن وجهه المصابيح، ثم قال له: لو ترى ما أنا فيه لقرت عينك، ثم مات.
وقال محمد بن ثابت البناني: ذهبت ألقن أبي وهو في الموت فقلت: يا أبت! قل لا إله إلا الله. فقال: يا بني، خل عني، فإني في وردي السادس أو السابع!!
ولما احتضر عبدالرحمن بن الأسود بكى. فقيل له: مم البكاء؟ فقال: أسفاً على الصلاة والصوم، ولم يزل يتلو القرآن حتى مات.
وسمع عامر بن عبدالله المؤذن وهو في مرض الموت فقال: خذوا بيدي إلى المسجد، فدخل مع الإمام في صلاة المغرب، فركع ركعة ثم مات رحمة الله.
رحلة الموت
رب مذكور لقوم *** غاب عنهم فنسوه
وإذا أفنى سنيه *** المرء أفنته سنوه
وكأن بالمرء قد *** يبكي عليه أقربوه
وكأن القوم قد ماتوا *** فقالوا أدركوه
سائلوه كلموه *** حركوه لقنوه
فإذا استيأس منه الـ *** قوم قالوا أحرقوه
حرفوه وجهوه *** مددوه غمضوه
عجلوه لرحيل *** عجلوا لا تحبسوه
ارفعوه غسلوه *** كفنوه حنطوه
فإذا ما لف في الـ *** أكفان قالوا فاحملوه
أخرجوه فوق أعواد *** المنايا شيعوه
فإذا صلوا عليه *** قيل هاتوا واقبروه
فإذا ما استودعوه *** الأرض رهناً تركوه
خلفوه تحت رمس *** أوقروه أثقلوه
أبعدوه أسحقوه *** أوحدود أفردوه
ودعوه فارقوه *** أسلموه خلفوه
وانثنوا عنه وخلوه *** كأن لم يعرفوه
وكأن القوم فيما *** كان فيه لم يلوهhttp://www.soutiat.com/open.php?_wm_file=3971&_wm_action=open