جـــودي
مشرفة قسم
على سفوح الجبال الجنوبية السعودية المحاذية لليمن
يعيش مفرح ذو الأحد عشر عامًا مع أسرته
وكان سعيدًا بحضور حلقات تحفيظ القرآن التي ينظِّمها
ويُشرف عليها مكتب الدعوة في جبال (هَروب) في جازان
مفرح المفعم بالحيوية سَرعان ما وطَّد علاقته
بالدعاة الموجودين فهو اجتماعي بطبعه وكثيرًا
ما يبكر إليهم ليستمتع بمحادثتهم وفي نهاية الدورة
التي استمرت قرابة ثلاثة أسابيع يدعونا لزيارة أسرته
سرنا معه على سفوح الجبال في طرق متعرجة
منخفضين تارة ومرتفعين أخرى وهو يحدثنا عن المعالم
التي نشاهدها وعندما وصلنا إلى المجلس كان في انتظارنا
عمه الوقور الذي غزا الشيب نصف لحيته فحيَّا ورحَّب
وقربوا التمر مع (البن) أو (البنو) كما ينطقونه
فلأهل ذلك الجبل لغة عربية غريبة لها أصل
في الزمن الجاهلي فهم يزيدون على الاسم حرف الواو
فالموز ينطقونه (موزو) وفي الأذان يقولون (الله أكبرو)
تحادثنا ساعة ثم طلب منا مفرح السلام
على والده المريض الذي استقبلنا في ساحة
البيت مترنحًا حتى كلامه أخذ الهزال منه نصيبه
رقاه صاحبي بما تيسر ثم ودعناهم شاكرين
لهم حسن الضيافة داعين لمريضهم بالشفاء .
وصلنا إلى مقرِّنا وقد غربت الشمس والعم
أحمد بانتظارنا ومعه كعادته (القشرو)
قهوتنا من قشر القهوة التي ما أحببناها إلا منه
تسامرنا وأخبرناه بزيارتنا تنهد العم أحمد وقال:
عمهم ذاك الذي رأيتموه قد ضحى بحياته وحرم
نفسه الزواج لأنه بالكاد يعيل أسرة أخيه
ما أجمل جبر القلوب عند ذلك الجيل
فالأسرة وتربية الأبناء رمز للتضحية حتى أصبح عُرفًا
للمجتمع ومِن قِيَمه الأصيلة ذلك الجيل الذي يُرمى
ظلمًا بالجفاء من غير مراعاة للمؤثرات التي عاشها
من الكدح والفقر والعِوَز! سعار الجوع ينهش حياتهم
ومع ذلك كانوا يسرقون لحظات الأنس من رحى المخمصة
والحديث هنا عن تماسك الأسرة وهذا لا يعني أنهم جيل ملائكي
إن لذلك الجيل في عمومه قيمًا راسخة قد حدَّد أولوياته
وعرَف مهماته فالوالدان هما ركنا البيت وفقد أحدهما
زلزال يجب أن لا يُدمر الأسرة فإن مات الأب
رضيت الأم الزواج بأخيه ولو كانت به غير راغبة
وإن ماتت الأم تقدم الأب إلى أختها وليس فيها
ما يدعوه إلى نكاحها وكلاهما لا يريد أن يدخل غريبًا
على الأبناء خوفًا من إساءته إليهم فتقدم العمر
أو انعدام الجمال أو قلة المال في الغالب لا يشكل عائقًا
فمصلحة الأبناء مقدَّمة على كل مصلحة
والبيت يجب ألا يخلو من حنان المرأة وحزم الرجل
الذين هما للتربية كالجناحين كي يصل أبناء تلك الأسرة
المكلومة إلى بر الأمان! كلا الزوجين يعلم أن الوضع
لن يعود لسابق عهده لكنهما يجتمعان لترميم ما تصدَّع
وإقامة ما تهدَّم الحياة الزوجية في الإسلام أرقى ما تتخيله
العقول لا غرو فالمشرع لهذه العلاقة هو أحكم الحاكمين
جل جلاله﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة 50]
وقد أنزلت فيها آيات عظيمات وسُميت بها سور
ووضع لها حقوق وواجبات من لدن حكيم خبير تراعي
الحاجات الجسدية والنفسية تضمَّنت الأمر بتقوى الله
والتحذير من تخطي تلك الحدود﴿ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (البقرة229)
﴿ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾ [الطلاق 1]
والتحذير من عدم الائتمار بأوامر الله واجتناب نواهيه
فإن الله لم يشرعها عبثًا حتى تتخذ هزوًا من غير تطبيق
﴿ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ﴾ [البقرة ٢٣١] ولأهمية الأسرة
في الإسلام فقد شَمِلتها النصوص من حثٍّ على الزواج
ثم حسن الاختيار ثم الخطبة فالزواج يليه الإصلاح
وطرائقه يعقبه الموت وعدته والإرث وأحكامه
وحتى في يوم القيامة له شأنه بل امتدت أخبار تلك العلاقة
إلى الجنة ولعِظم شأن الزواج في الإسلام سُمي عقده
بالميثاق الغليظ أخذ على الأزواج عهدًا معظمًا للقيام
بحقوق زوجاتهم ﴿ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾ [النساء-21]
جعل الله خلق الزوجة آية من آياته وهبة من هباته
فقد خلقها الله من الرجل فهو منشؤها وهي جزء منه
وهو أصلها وهي فرعه فليس أحدهما غريبًا عن الآخر
وذلك من بداية الخليقة حين خلق الله حواء من آدم عليه الصلاة والسلام
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [21-الروم]
العلاقة الزوجية وصفها الله بما لم يَصِف به العلاقة
بين والدة وولدها ولا بين أُخت وأخيها وصفها الله بالسكن﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ ﴾ [البقرة: 187]
فمعنى اللباس السكن كما في قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ﴾ [النبأ:10]
ذكر القرطبي عن مُجَاهِد (أَيْ يَسْكُنُ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ)
وكُلُّ واحِدٍ مِنهُما يَستغني بصاحبه عَنِ الفُجُورِ ويستره من النار
هو سيدها ﴿ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ﴾ [يوسف: 25]
وهي صاحبته﴿ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ﴾ [عبس: 36] وبين هذين اللفظين
من كلام الله (سيدها صاحبته) تكامل لا ندية فله عليها السيادة
والطاعة (القوامة) ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ
بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾ [النساء-34]
وعليه الإنفاق ولها عليه العشرة بالمعروف ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بالمَعرُوفِ ﴾ [النساء 19]
وإن من لوازم المودة والرحمة والعشرة بالمعروف
من الطرفين كف الأذى من السب والشتم والتحقير وإظهار المنة
المؤذية وذكر قرابة الآخر بسوء فعلى عداوة أبي سفيان قبل إسلامه
للنبي صلى الله علي وسلم وهجائه له ما كان صلى الله عليه وسلم
يذُمه أمام ابنته أم المؤمنين أم حبيبة﴿ وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾
والسكن هو الهدوء وعدم التنافس المفضي للخلاف والسفينة
لا يصلح لها قائدان! ولأهمية القوامة فقد ذكرت في كتاب الله
وبأكثر من أسلوب مؤكدًا أن القوامة للرجل وتعني (الطاعة)
﴿ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا
قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ
مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴾ [القصص: 29] فقوله (وسار بأهله)
فيه أن الزوجة تتبع زوجها في ترحُّله وانتقاله مالم تشترط
في العقد وفي قوله: (امكثوا) أن له الأمر عليها فيما رأى فيه
مصلحة من الحقوق: المهر للمرأة ﴿ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ﴾ [النساء 4]
والفراش للرجل قالَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم:
(إِذَا دعَا الرَّجُلُ امْرأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فلَمْ تَأْتِهِ فَبَات غَضْبانَ عَلَيْهَا
لَعَنتهَا الملائكَةُ حَتَّى تُصْبحَ) متفقٌ عَلَيهِ.
وكان ذلك مما تطيقه جسديًّا ونفسيًّا﴿ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة-286]
إن للزواج في الإسلام بعدًا أخرويًّا وأخلاقيًّا يتعدى النظرة
الدنيوية فإذا كانت كفالة اليتيم جزاؤها صحبة رسول الله
في الجنة فكيف بالتعبد إلى الله بالزواج والعفة وتكوين الأسرة
وتربية الأبناء فلربما ارتقوا بها في الجنة درجات وعطايا الرحمن
ممتدة حتى في الواجبات فعن سعد بن أَبي وقَّاص رضي الله عنه
أَنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ لَه ﴿ وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجهَ اللَّه
إلاَّ أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى مَا تَجْعلُ في فيِّ امرأَتِكَ ﴾(متفقٌ عَلَيهِ)
بل إن تلك اللقمة التي وُضعت في فم الزوجة أعظم أجرًا من الإنفاق
في الجهاد ومن الصدقة وعتق الرقبة فعن أَبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم
:﴿ دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ في سبيلِ اللَّه وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ في رقَبَة ودِينَارٌ تصدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِين وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ
علَى أَهْلِك أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذي أَنْفَقْتَهُ علَى أَهْلِكَ ﴾ رواه مسلم.
بل وسَّع الأمر من رحمة الله وفضله فثبت أنهما مأجوران
على لذة الفراش ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
﴿ وفي بُضْعِ أحدِكم صدقةٌ! ﴾ (رواه مسلم)
وربما كان من نتاج الزواج ما ينتفع به بعد الموت وهو دعاء
الولد الصالح فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم قَال ﴿ إِذَا مَاتَ ابنُ آدم انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ
إِلَّا مِنْ ثَلَاث صَدَقَةٍ جَارِيَة أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِه أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ ﴾(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)
التشريع الإسلامي ينظر إلى الحياة الزوجية نظرة واقعية
بعيدة عن الخيال ومن اشترط الكمال فلن يجد إلا العدم
فالخلق مجبولون على النقص فعن أبي هريرة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: ﴿ لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَة إنْ كَرِهَ منها
خُلُقًا رَضِيَ منها آخَرَ ﴾ (رواه مسلم)
فمن وجد من زوجته ما يَكره فليُخفف عن نفسه بشيء أحبَّه
فيها لئلا يَفرَكها أي يبغضها فيَظلمها وكذا الحال بالنسبة للمرأة
فلن تجد زوجًا يتوافق معها في كل شيء وإذا لم يكن بين الزوجين الانسجام الذي يتمنونه
فأجر الصبر عزاءٌ ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر:10]
وأجر الإيثار عزاء﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ [الحشر: 9]
وأجر الرحمة عزاء فعن جريرِ بنِ عبدِاللَّه رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم
﴿ مَنْ لا يَرْحَم النَّاس لا يَرْحَمْهُ اللَّه ﴾ (متفقٌ عَلَيهِ)
إنها قِيَمٌ حثَّ عليها الإسلام من الصبر والتغاضي عن زلات
الصديق وأذى الجار وإن جار تكلم بها الحكماء وقصد بها الشعراء
وخبر حمالة الحطب ليس بخاف أليس الزوج والزوجة أولى بالصبر
وأحرى بالتغاضي فمتى كان الصبر ضعفا، والتغاضي منقصة
ليس كل زواج لم يبدأ بحب وانسجام يحكم عليه بالفشل
فكم من المجالس يجمع بين شخصين يجدان النفرة من بعضهما
ومع طول الصحبة وتبين الفعال يكونان أخص الأصحاب الموظف
يصابر الغربة وعدم الانسجام ويحاول التكيف من أجل الحفاظ على وظيفته ..
الزواج ليس مجرد ألفاظ تعبِّر عن العشق والاشتياق
بل هو تضحيةٌ تُعبر عن حب وإيثارٌ يُنبئ عن رحمة وتنازلٌ يُعرب
عن إخلاص وتغاضٍ ينطق بالمودة إن الفراش الواحد رمزية التكاتف
في السراء والضراء، يتشاركان كأس الأفراح ويتشاطران غُصة الأتراح
هو جبلُها الذي تتكئ عليه وهي رُوحه التي تخفِّف عنه قلوب لا تصدَأ ومبادئ لا تموت
يعيش مفرح ذو الأحد عشر عامًا مع أسرته
وكان سعيدًا بحضور حلقات تحفيظ القرآن التي ينظِّمها
ويُشرف عليها مكتب الدعوة في جبال (هَروب) في جازان
مفرح المفعم بالحيوية سَرعان ما وطَّد علاقته
بالدعاة الموجودين فهو اجتماعي بطبعه وكثيرًا
ما يبكر إليهم ليستمتع بمحادثتهم وفي نهاية الدورة
التي استمرت قرابة ثلاثة أسابيع يدعونا لزيارة أسرته
سرنا معه على سفوح الجبال في طرق متعرجة
منخفضين تارة ومرتفعين أخرى وهو يحدثنا عن المعالم
التي نشاهدها وعندما وصلنا إلى المجلس كان في انتظارنا
عمه الوقور الذي غزا الشيب نصف لحيته فحيَّا ورحَّب
وقربوا التمر مع (البن) أو (البنو) كما ينطقونه
فلأهل ذلك الجبل لغة عربية غريبة لها أصل
في الزمن الجاهلي فهم يزيدون على الاسم حرف الواو
فالموز ينطقونه (موزو) وفي الأذان يقولون (الله أكبرو)
تحادثنا ساعة ثم طلب منا مفرح السلام
على والده المريض الذي استقبلنا في ساحة
البيت مترنحًا حتى كلامه أخذ الهزال منه نصيبه
رقاه صاحبي بما تيسر ثم ودعناهم شاكرين
لهم حسن الضيافة داعين لمريضهم بالشفاء .
وصلنا إلى مقرِّنا وقد غربت الشمس والعم
أحمد بانتظارنا ومعه كعادته (القشرو)
قهوتنا من قشر القهوة التي ما أحببناها إلا منه
تسامرنا وأخبرناه بزيارتنا تنهد العم أحمد وقال:
عمهم ذاك الذي رأيتموه قد ضحى بحياته وحرم
نفسه الزواج لأنه بالكاد يعيل أسرة أخيه
ما أجمل جبر القلوب عند ذلك الجيل
فالأسرة وتربية الأبناء رمز للتضحية حتى أصبح عُرفًا
للمجتمع ومِن قِيَمه الأصيلة ذلك الجيل الذي يُرمى
ظلمًا بالجفاء من غير مراعاة للمؤثرات التي عاشها
من الكدح والفقر والعِوَز! سعار الجوع ينهش حياتهم
ومع ذلك كانوا يسرقون لحظات الأنس من رحى المخمصة
والحديث هنا عن تماسك الأسرة وهذا لا يعني أنهم جيل ملائكي
إن لذلك الجيل في عمومه قيمًا راسخة قد حدَّد أولوياته
وعرَف مهماته فالوالدان هما ركنا البيت وفقد أحدهما
زلزال يجب أن لا يُدمر الأسرة فإن مات الأب
رضيت الأم الزواج بأخيه ولو كانت به غير راغبة
وإن ماتت الأم تقدم الأب إلى أختها وليس فيها
ما يدعوه إلى نكاحها وكلاهما لا يريد أن يدخل غريبًا
على الأبناء خوفًا من إساءته إليهم فتقدم العمر
أو انعدام الجمال أو قلة المال في الغالب لا يشكل عائقًا
فمصلحة الأبناء مقدَّمة على كل مصلحة
والبيت يجب ألا يخلو من حنان المرأة وحزم الرجل
الذين هما للتربية كالجناحين كي يصل أبناء تلك الأسرة
المكلومة إلى بر الأمان! كلا الزوجين يعلم أن الوضع
لن يعود لسابق عهده لكنهما يجتمعان لترميم ما تصدَّع
وإقامة ما تهدَّم الحياة الزوجية في الإسلام أرقى ما تتخيله
العقول لا غرو فالمشرع لهذه العلاقة هو أحكم الحاكمين
جل جلاله﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة 50]
وقد أنزلت فيها آيات عظيمات وسُميت بها سور
ووضع لها حقوق وواجبات من لدن حكيم خبير تراعي
الحاجات الجسدية والنفسية تضمَّنت الأمر بتقوى الله
والتحذير من تخطي تلك الحدود﴿ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (البقرة229)
﴿ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾ [الطلاق 1]
والتحذير من عدم الائتمار بأوامر الله واجتناب نواهيه
فإن الله لم يشرعها عبثًا حتى تتخذ هزوًا من غير تطبيق
﴿ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ﴾ [البقرة ٢٣١] ولأهمية الأسرة
في الإسلام فقد شَمِلتها النصوص من حثٍّ على الزواج
ثم حسن الاختيار ثم الخطبة فالزواج يليه الإصلاح
وطرائقه يعقبه الموت وعدته والإرث وأحكامه
وحتى في يوم القيامة له شأنه بل امتدت أخبار تلك العلاقة
إلى الجنة ولعِظم شأن الزواج في الإسلام سُمي عقده
بالميثاق الغليظ أخذ على الأزواج عهدًا معظمًا للقيام
بحقوق زوجاتهم ﴿ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾ [النساء-21]
جعل الله خلق الزوجة آية من آياته وهبة من هباته
فقد خلقها الله من الرجل فهو منشؤها وهي جزء منه
وهو أصلها وهي فرعه فليس أحدهما غريبًا عن الآخر
وذلك من بداية الخليقة حين خلق الله حواء من آدم عليه الصلاة والسلام
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [21-الروم]
العلاقة الزوجية وصفها الله بما لم يَصِف به العلاقة
بين والدة وولدها ولا بين أُخت وأخيها وصفها الله بالسكن﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ ﴾ [البقرة: 187]
فمعنى اللباس السكن كما في قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ﴾ [النبأ:10]
ذكر القرطبي عن مُجَاهِد (أَيْ يَسْكُنُ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ)
وكُلُّ واحِدٍ مِنهُما يَستغني بصاحبه عَنِ الفُجُورِ ويستره من النار
هو سيدها ﴿ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ﴾ [يوسف: 25]
وهي صاحبته﴿ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ﴾ [عبس: 36] وبين هذين اللفظين
من كلام الله (سيدها صاحبته) تكامل لا ندية فله عليها السيادة
والطاعة (القوامة) ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ
بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾ [النساء-34]
وعليه الإنفاق ولها عليه العشرة بالمعروف ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بالمَعرُوفِ ﴾ [النساء 19]
وإن من لوازم المودة والرحمة والعشرة بالمعروف
من الطرفين كف الأذى من السب والشتم والتحقير وإظهار المنة
المؤذية وذكر قرابة الآخر بسوء فعلى عداوة أبي سفيان قبل إسلامه
للنبي صلى الله علي وسلم وهجائه له ما كان صلى الله عليه وسلم
يذُمه أمام ابنته أم المؤمنين أم حبيبة﴿ وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾
والسكن هو الهدوء وعدم التنافس المفضي للخلاف والسفينة
لا يصلح لها قائدان! ولأهمية القوامة فقد ذكرت في كتاب الله
وبأكثر من أسلوب مؤكدًا أن القوامة للرجل وتعني (الطاعة)
﴿ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا
قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ
مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴾ [القصص: 29] فقوله (وسار بأهله)
فيه أن الزوجة تتبع زوجها في ترحُّله وانتقاله مالم تشترط
في العقد وفي قوله: (امكثوا) أن له الأمر عليها فيما رأى فيه
مصلحة من الحقوق: المهر للمرأة ﴿ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ﴾ [النساء 4]
والفراش للرجل قالَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم:
(إِذَا دعَا الرَّجُلُ امْرأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فلَمْ تَأْتِهِ فَبَات غَضْبانَ عَلَيْهَا
لَعَنتهَا الملائكَةُ حَتَّى تُصْبحَ) متفقٌ عَلَيهِ.
وكان ذلك مما تطيقه جسديًّا ونفسيًّا﴿ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة-286]
إن للزواج في الإسلام بعدًا أخرويًّا وأخلاقيًّا يتعدى النظرة
الدنيوية فإذا كانت كفالة اليتيم جزاؤها صحبة رسول الله
في الجنة فكيف بالتعبد إلى الله بالزواج والعفة وتكوين الأسرة
وتربية الأبناء فلربما ارتقوا بها في الجنة درجات وعطايا الرحمن
ممتدة حتى في الواجبات فعن سعد بن أَبي وقَّاص رضي الله عنه
أَنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ لَه ﴿ وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجهَ اللَّه
إلاَّ أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى مَا تَجْعلُ في فيِّ امرأَتِكَ ﴾(متفقٌ عَلَيهِ)
بل إن تلك اللقمة التي وُضعت في فم الزوجة أعظم أجرًا من الإنفاق
في الجهاد ومن الصدقة وعتق الرقبة فعن أَبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم
:﴿ دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ في سبيلِ اللَّه وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ في رقَبَة ودِينَارٌ تصدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِين وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ
علَى أَهْلِك أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذي أَنْفَقْتَهُ علَى أَهْلِكَ ﴾ رواه مسلم.
بل وسَّع الأمر من رحمة الله وفضله فثبت أنهما مأجوران
على لذة الفراش ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
﴿ وفي بُضْعِ أحدِكم صدقةٌ! ﴾ (رواه مسلم)
وربما كان من نتاج الزواج ما ينتفع به بعد الموت وهو دعاء
الولد الصالح فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم قَال ﴿ إِذَا مَاتَ ابنُ آدم انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ
إِلَّا مِنْ ثَلَاث صَدَقَةٍ جَارِيَة أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِه أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ ﴾(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)
التشريع الإسلامي ينظر إلى الحياة الزوجية نظرة واقعية
بعيدة عن الخيال ومن اشترط الكمال فلن يجد إلا العدم
فالخلق مجبولون على النقص فعن أبي هريرة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: ﴿ لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَة إنْ كَرِهَ منها
خُلُقًا رَضِيَ منها آخَرَ ﴾ (رواه مسلم)
فمن وجد من زوجته ما يَكره فليُخفف عن نفسه بشيء أحبَّه
فيها لئلا يَفرَكها أي يبغضها فيَظلمها وكذا الحال بالنسبة للمرأة
فلن تجد زوجًا يتوافق معها في كل شيء وإذا لم يكن بين الزوجين الانسجام الذي يتمنونه
فأجر الصبر عزاءٌ ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر:10]
وأجر الإيثار عزاء﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ [الحشر: 9]
وأجر الرحمة عزاء فعن جريرِ بنِ عبدِاللَّه رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم
﴿ مَنْ لا يَرْحَم النَّاس لا يَرْحَمْهُ اللَّه ﴾ (متفقٌ عَلَيهِ)
إنها قِيَمٌ حثَّ عليها الإسلام من الصبر والتغاضي عن زلات
الصديق وأذى الجار وإن جار تكلم بها الحكماء وقصد بها الشعراء
وخبر حمالة الحطب ليس بخاف أليس الزوج والزوجة أولى بالصبر
وأحرى بالتغاضي فمتى كان الصبر ضعفا، والتغاضي منقصة
ليس كل زواج لم يبدأ بحب وانسجام يحكم عليه بالفشل
فكم من المجالس يجمع بين شخصين يجدان النفرة من بعضهما
ومع طول الصحبة وتبين الفعال يكونان أخص الأصحاب الموظف
يصابر الغربة وعدم الانسجام ويحاول التكيف من أجل الحفاظ على وظيفته ..
الزواج ليس مجرد ألفاظ تعبِّر عن العشق والاشتياق
بل هو تضحيةٌ تُعبر عن حب وإيثارٌ يُنبئ عن رحمة وتنازلٌ يُعرب
عن إخلاص وتغاضٍ ينطق بالمودة إن الفراش الواحد رمزية التكاتف
في السراء والضراء، يتشاركان كأس الأفراح ويتشاطران غُصة الأتراح
هو جبلُها الذي تتكئ عليه وهي رُوحه التي تخفِّف عنه قلوب لا تصدَأ ومبادئ لا تموت