انين الصمت
مراقبة عام
مذ عرفتُ الكاتب عبدالواحد اليحيائي، والحياء والسخاء ركنان رئيسان في شخصيته، وربما كان لدراسته «الإدارة الصناعية» في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن دور في بنائه المعرفي، والثقافي، المبني على مبادئ وقيم أخلاقية لم ينزع يده منها، وعلى قدر ما يتمتع ضيف هذه المساحة بالهدوء، إلا أنه يشاكس الفكرة، ويجادل كتابته؛ لتخرج للناس في أبهى حُلّة لغوية وجمالية، مؤمناً بأن ما نريد به منفعة الناس يحتاج إلى شغل وتعب وجهد.. وهنا نص الحوار مع أبرز كُتّاب القصة القصيرة..
• ما ظروف وملامح انطلاقة شرارة الوعي؟
•• ولدت في بيئة تحترم أولئك الذين يقرأون، وتجعل للكتاب حيزاً عظيماً من التقدير والمحبة، وحين شعر والدي رحمه الله بحبي للقراءة جعل مصروفي اليومي منفصلاً عن مصروف شراء كتاب بين فترة وأخرى، وقال لي ذات مساء ونحن نشاهد معاً حلقة من برنامج العلم والإيمان للدكتور مصطفى محمود -رحمه الله-: انظر إليه كيف يكاد العلم أن يخرج من عينيه، ثم التفت إليَّ قائلاً بحماس الآباء المحبين: كن مثله عالماً، وسيعجبني ذلك كثيراً. أخي الأكبر كان قارئاً متمرساً، وكثيراً ما كنت التقط بعده ما قرأه من كتب بدءاً من المغامرات الخيالية المصورة (سوبرمان وأمثاله)، إلى كتب أكثر عمقاً في مرحلة لاحقة، وما زلت أتبادل الكتب مع أخي خالد، وإن اختلفت الأساليب باختلاف تقنيات تبادل الكتب والمعارف عبر الزمان.
في المدرسة الابتدائية كنت الأفضل في مادة (التعبير) ومن المتقدمين جداً في مادة (الخط العربي)، وكان تشجيع المدرسين جميلاً، إذ كانوا يقرؤون هم شخصياً على الطلاب ما كتبته في مادة التعبير، أو يشيرون إلى المواضع التي يمكن أن يكون فيها (الخط) أجمل. وكان لإثارة المنافسة بيننا -نحن الطلاب- بوسائل مختلفة أثره الكبير في الرقي بأفهامنا الصغيرة لتتطلع إلى الأجمل والأكمل دائماً، بعد ذلك في المتوسطة والثانوية وهناك وعبر مادتي (المطالعة) و(النصوص) تعرفت على المدرسة الأدبية السعودية بشخصياتها الكبيرة: عبدالله الفيصل، طاهر زمخشري، محمد علي السنوسي، حسن القرشي، حامد دمنهوري، حمزة شحاته، ومحمد عواد -رحمهم الله-، وتعرفت على مجلة (المنهل) لعبدالقدوس الأنصاري، ومجلة (العرب) لحمد الجاسر، وأيضاً تابعت الملاحق الثقافية في الصحف المحلية والعربية، واستفدت كثيراً من ملحق (المربد) بجريدة اليوم؛ الذي كان يشرف عليه حسن السبع -رحمه الله-، وفي المرحلتين الثانوية والجامعية تعرفت على مدارس عربية وإسلامية أخرى في مصر والعراق والشام والمغرب العربي أيضاً، كما أتاحت لي معرفتي باللغة الإنجليزية الاطلاع على الآداب المكتوبة بها أو المترجمة إليها، وكذلك استمرت بي الحياة إلى اليوم بين القراءة والتجربة والكتابة مع محاولة البحث عن الجديد الجميل في كل شيء.
• لمن تعزو الفضل فيما بلغته من شهرة أدبية؟
•• لكل من قرأت لهم؛ سواء من القدماء أو المعاصرين، بمعنى أني أعزو الفضل الأول للقراءة، القراءة شغلت الحيز الأكبر من وقتي منذ الطفولة وإلى اليوم، قرأت كثيراً ولكثيرين ومع ازدياد الكم المقروء بلا اهتمام بالكمِّ في البدايات ومع انتباه للمادة المقروءة والكيف مع مرور السنوات كان إيماني بقوله تعالى: «وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً» في ازدياد، وكان ذلك محفزاً على طلب المزيد، ويأتي بعد ذلك الحوار مع المثقفين حول ما قرأناه وما كتبناه ونشرناه، الحوار مع الآخر وفهمه وتبادل الأفكار معه يخلق مجالاً أوسع للإبداع والتجديد والتغيير الثقافي والمجتمعي باتجاه الأفضل، وهناك أيضاً تجاربي الخاصة مع الحياة والكتابة والأساليب، كل ذلك مع توفر وسائل النشر، والحرص قدر الإمكان أن آتي بجديد ومختلف ساهم في زيادة معرفة الناس بي، وهو ما أحب أن ينتهي إلى التقدير قبل أن يتحول إلى شهرة.
• أي باب تعشقه حتى اليوم؟ وأي نافذة يزعجك ضوؤها منذ الطفولة؟
•• القصة القصيرة والنقد هما مجالي الأحب إليّ، من خلال القصة القصيرة أستطيع أن أنقل رؤيتي الخاصة لما هو حولي من أفكار وأشخاص وأشياء، وبالنقد الذي أوجهه لأصدقائي ويوجهونه لي في حواراتنا المتبادلة المباشرة أو عبر الكتابة في وسائل النشر المختلفة، وأعشق كتابة المقالة الأدبية الموضوعية وأحب متابعة الفلسفة ومشكلاتها وتأويلاتها في مختلف مجالاتها. أما ما يزعجني منذ الطفولة وإلى اليوم فهو الغموض المبهم المتعمد الذي يلجأ إليه بعض المبدعين دون مسوِّغ من فن ودون خوف من رقيب ودون مانع من قدرة لغوية وثقافية.
• متى كتبت أول نص؟ هل تذكره، أو تحتفظ به؟
•• نعم، كتبته في المرحلة المتوسطة، وكان قصة قصيرة، ولعله موجود بين الكم المتراكم من الأوراق المحفوظة لدي من أزمنة مختلفة، وأتذكر أنه كان يحكي عن شاب يلبس «غترته» بطريقة كنا نسميها «البرشوتية» حينها، وهو موضوع قد يكون مستهلكاً اليوم؛ أي الحديث عن غرور بعض الشباب من خلال ما يلبسون عبر قصة قصيرة، لكن للبدايات رونقها أيضاً، و«العبرة بكمال النهايات لا نقص البدايات» كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-.
• لماذا كانت القصة خياراً؟ هل لها علاقة بالتخصص الدراسي؟
•• القصة القصيرة فن صعب، أو لنقل أنه السهل الممتنع، واخترتها من بين فنون الكتابة الأخرى لقدرتها على نقل أفكاري الخاصة للقراء بطريقة جاذبة ومشوقة، الأفكار العميقة جافة في الغالب؛ لذا فهي تحتاج مركباً من جمال وبساطة لتسويقها ونشرها في أوساط المجتمع. ولا علاقة مباشرة بالتخصص الدراسي بتوجهي إلى المجال الثقافي الأدبي، فأنا خريج كلية الإدارة الصناعية من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن.
• من هم آباؤك المؤسسون لتجربتك؟
•• كثيرون جدّاً، وفي مجالات مختلفة؛ محلياً وعربياً وعالمياً، حاولت قراءة أكبر عدد ممكن ممن آمنت بتميزهم وقدرتهم على التغيير وبراعتهم في ذلك في مجالات مختلفة؛ أدبياً واقتصادياً واجتماعياً وفلسفياً، لكن بما أننا نتحدث عن القصة القصيرة والرواية وروادها؛ فهناك جبير المليحان وتجربته الرائعة في منتدى القصة العربية، وهناك جارالله الحميد، وعبدالعزيز مشري، وإبراهيم الناصر الحمدان، ومحمد علوان، وغازي القصيبي، وعربياً هناك يوسف إدريس، وزكريا تامر، وبالتأكيد لا يمكن إغفال عبدالرحمن منيف، ونجيب محفوظ، وغير هؤلاء كثر ممن تأثرت بهم في البدايات، بل وما بعد البدايات أيضاً، نحن حلقة في سلسلة ثقافية ممتدة من قبل وستبقى من بعد.
• كيف تقرأ تجربة القصة في المملكة؟
•• تجربة قوية، وممتدة وناجحة ومبشرة ولا أشك في ذلك.
• مَن رموز إبداعها اليوم في المملكة؟
•• كثيرون والحمد لله، والتنافس بينهم لإبراز الإبداع الأجمل كبير ومحفز؛ منهم: جبير المليحان، محمد المزيني، خالد اليوسف، عبدالواحد الأنصاري، محمد علوان، محمود تراوري، أمل الفاران، خليل الفزيع، عبده خال، شروق الخالد، صلاح القرشي، محمد المطرفي، وفاء الطيب.. وآخرون قادمون بقوة.
• متى شعرت باستباحة حِمَى القصة من متطفلين وفضوليين؟
•• حين كتبها من لا يحسنون الكتابة بلغة سليمة، وحين مارسها من لا يجتهدون في البحث عن فكرة جديدة أو مختلفة، وحين أصبحت استسهالاً وهرباً من كتابة أخرى يجيدها الكاتب لكن فضّل القصة؛ لأنه يعتقد أنها الفن الأسهل، وهي ليست كذلك بالتأكيد حين نأخذ القصة على محمل الجد والرغبة في إبداع مختلف وقابل للبقاء لأجيال قادمة.
• ألم تنزعج من اكتساح فنون أخرى لباحات الكتابة؟
•• لا، لأن الفنون الأدبية الكتابية تتنوع، لكنها لا تتعارض، وتتقاطع في أحيان كثيرة، وفي تنوعها وتقاطعها إثراء للقارئ المتابع، وفيه أيضاً تحفيز على ابتكار الجديد مع المحافظة على القديم المؤسس، بل بالعكس انزعج حين نقتصر على فن واحد ونهمل فنوناً أخرى، الجمال والجلال يسعان الجميع.
• أين تقف اليوم من فضاء أتاح للجميع الكتابة؟ وما ردة فعلك على ما ترصده من كتابات «أي كلام»؟
•• أؤمن بأن البقاء لما ينفع الناس ومنهم القراء، أما الزبد سيختفي ويبقى الماء النمير، وليكتب من يشاء أن يكتب كما يشاء فإن خرج من بين ألف كتابة لا نحب بقصة جميلة، أو قصيدة رائعة، أو نقد غني، فذاك هو المطلوب، من جموع من شعراء لا نعرفهم اليوم ولا نتذكرهم خرج لنا المتنبي قديماً، ومحمد إبراهيم يعقوب حديثاً، ومن جموع من قصص لم تعجبنا ظهر لنا عبدالرحمن منيف وعبده خال، لننتظر ولنأمل الخير فعسي أن يخرج الفرد المتميز من بين الكثير الفج.
• أستشعر أحياناً من خلال سيرتك أن ما يعنيك هو الإنتاج، بصرف النظر عن نوع المنتج، ما صحة هذا الاستشعار؟ وما الصحيح إن لم يكن صحيحاً ؟
•• الفنون الأدبية والثقافية تتلاقح، لا يمكن أن تكتب قصة قصيرة اجتماعية مثلاً دون أن تكون ملماً ببعض المعلومات الدينية والنفسية، ولا يمكن أن تشرح مبدأً فلسفياً دون أن تملك القدرة على إبرازه في قالب يفهمه المخاطبون، أكتب القصة القصيرة، وفي الطريق أعرج على نقد كتابات الزملاء، ثم اكتب المقال الموضوع في الفلسفة مثلاً فأحتاج أن أضرب الأمثلة من خارج الفلسفة ليعي القارئ ما أقول، وقد أكتب تاريخ مرحلة ما، ولن أكون منصفاً إن لم أقرأ هذه المرحلة بعيون أبنائها قبل عيون من يرصد التجربة من بعدهم، وقس على ذلك أفكاراً كثيرة، الإنتاج المختلف هو ضريبة القراءة المختلفة والبحث عن سند قوي لكتابة يراد لها أن تكون ممتعة، وأن تكون نافعة في الوقت نفسه، ولن تكون كذلك دون قراءة منوعة تنتج كتابة متنوعة.
• هل تماهينا مع الآخرين ثقافياً بحكم سعة التواصل الاجتماعي؟
•• نعم، نحن نفعل ذلك كل يوم، ونختلف ونتفق كل يوم مع الآخرين، لكن لنسع فنكون صادقين مع أنفسنا ومع الآخر، وواثقين من قدرتنا على العمل والإنجاز في كل مجال في هذا العهد الزاهر الذي نعيشه في المملكة، ومن ذلك قدرتنا على المنافسة الثقافية والأدبية بإبداع خاص بنا يمثل بيئتنا بكل ما تحويه من تنوع وتغاير وتميز أيضاً.
• مِمَّ تخشى على الثقافة؟
•• من أدعيائها الذين لا يعملون، ويسوؤهم أن يعمل الناس كما عبَّر عن ذلك طه حسين -رحمه الله-، أخشى عليها من طرفي نقيض يقف في زاوية منه أولئك المتشائمون الذين يقللون من شأن كل إنجاز ثقافي فردي أو مؤسسي، وأولئك الذين يبالغون في تقدير الأعمال الضعيفة حدّ إفساد ذائقة القارئ وخلق جيل من الكتاب لا يستطيع التقدم؛ لأننا بالغنا في الثناء حدّ الغثاثة مادحين وحدّ الغرور مانحين.
• ما رأيك في قول «انتهاء عصر المؤسسات الثقافية» وابتداء زمن الفرد المؤسسة؟
•• أراها مقولة خاطئة، ما نشهده في وطننا على الأقل هو العكس، لكن يجب ألَّا تلغي المؤسسة دور الفرد؛ لأن مجموع الأفراد هو المؤسسة، وألّا يستهين الفرد بقدر المؤسسة؛ لأن العمل الجماعي مطلوب والله مع الجماعة. الغالب على الإبداع أن يكون فردياً، لكن محتضن الإبداع وراعيه في الغالب الأعم هو المؤسسة، وعسى ألا تتعارض الأدوار بين الفرد والمؤسسة.
• هل أنصف نقادنا مبدعينا؟
•• هم يحاولون الإنصاف قدر استطاعتهم، بمعنى الاطلاع على الأعمال (النصوص) وتقديمها للقراء، وإبراز ما فيها من جمال، وترويج المناسب من هذه الأعمال عبر الكتابة عنه في الوسائل الثقافية المتاحة. لكن مِمَّن النقاد يتاح له أن يقرأ كل عمل ينشر وهي كثيرة؟ وحتى إن وجد الوقت -وذلك صعب- فأين وسيلة النشر المناسبة إن تجاوزنا ما نكتبه من نقد انطباعي في الغالب عبر وسائل التواصل الاجتماعي؟ الناقد مثل المبدع، بل إن الملاحظ أن أغلب نقادنا يشتغلون بالإبداع والترجمة، وذلك يستغرق الكثير من الوقت، لكن لنجتهد ونحاول فذلك خير من ألا نعمل على الإطلاق.
• كم مرة فكرت في التوقف عن الكتابة؟ ولماذا؟
•• حتى الآن لم أفكر في ذلك، ولكني سأفكر فيه حين أصل إلى مرحلة أؤمن فيها بأن لا جدوى من الكتابة، وأن الكتابة فعل عبثي لا فائدة منه، وقد تعوذ نبينا الكريم -عليه الصلاة والسلام- من دعوة لا يستجاب لها.
• بماذا تعالج مزاجية المثقف فيك إذا احتدت عليك؟
•• بمزيد من القراءة والتأمل، وربما بمشاهدة بعض الأفلام التي ينصح الأصدقاء بمشاهدتها، وأفضّل غالباً الأعمال التي اقتبست من روايات كنت قد قرأتها، وربما انصرف إلى سماع بعض الغناء الذي أحب أو الحديث مع الزملاء المنشغلين بالعمل العام فأفهم منهم وأتعرّف على ما يعرفونه ولا أعرفه.
• ما الجديد الذي تعمل عليه اليوم؟
•• أعمل على الترجمة، ترجمة عدد من القصص القصيرة التي أحب، ومجموعة من القصائد التي أحب أن يستمتع بها أصدقائي القراء، والترجمة إبداع آخر كما قال أستاذنا الكبير إحسان عباس، وقد أنجزت جزءاً كبيراً من ذلك، وعسى أن يصل إلى يد ناشر مثقف قريباً -بإذن الله-.
• ما ظروف وملامح انطلاقة شرارة الوعي؟
•• ولدت في بيئة تحترم أولئك الذين يقرأون، وتجعل للكتاب حيزاً عظيماً من التقدير والمحبة، وحين شعر والدي رحمه الله بحبي للقراءة جعل مصروفي اليومي منفصلاً عن مصروف شراء كتاب بين فترة وأخرى، وقال لي ذات مساء ونحن نشاهد معاً حلقة من برنامج العلم والإيمان للدكتور مصطفى محمود -رحمه الله-: انظر إليه كيف يكاد العلم أن يخرج من عينيه، ثم التفت إليَّ قائلاً بحماس الآباء المحبين: كن مثله عالماً، وسيعجبني ذلك كثيراً. أخي الأكبر كان قارئاً متمرساً، وكثيراً ما كنت التقط بعده ما قرأه من كتب بدءاً من المغامرات الخيالية المصورة (سوبرمان وأمثاله)، إلى كتب أكثر عمقاً في مرحلة لاحقة، وما زلت أتبادل الكتب مع أخي خالد، وإن اختلفت الأساليب باختلاف تقنيات تبادل الكتب والمعارف عبر الزمان.
في المدرسة الابتدائية كنت الأفضل في مادة (التعبير) ومن المتقدمين جداً في مادة (الخط العربي)، وكان تشجيع المدرسين جميلاً، إذ كانوا يقرؤون هم شخصياً على الطلاب ما كتبته في مادة التعبير، أو يشيرون إلى المواضع التي يمكن أن يكون فيها (الخط) أجمل. وكان لإثارة المنافسة بيننا -نحن الطلاب- بوسائل مختلفة أثره الكبير في الرقي بأفهامنا الصغيرة لتتطلع إلى الأجمل والأكمل دائماً، بعد ذلك في المتوسطة والثانوية وهناك وعبر مادتي (المطالعة) و(النصوص) تعرفت على المدرسة الأدبية السعودية بشخصياتها الكبيرة: عبدالله الفيصل، طاهر زمخشري، محمد علي السنوسي، حسن القرشي، حامد دمنهوري، حمزة شحاته، ومحمد عواد -رحمهم الله-، وتعرفت على مجلة (المنهل) لعبدالقدوس الأنصاري، ومجلة (العرب) لحمد الجاسر، وأيضاً تابعت الملاحق الثقافية في الصحف المحلية والعربية، واستفدت كثيراً من ملحق (المربد) بجريدة اليوم؛ الذي كان يشرف عليه حسن السبع -رحمه الله-، وفي المرحلتين الثانوية والجامعية تعرفت على مدارس عربية وإسلامية أخرى في مصر والعراق والشام والمغرب العربي أيضاً، كما أتاحت لي معرفتي باللغة الإنجليزية الاطلاع على الآداب المكتوبة بها أو المترجمة إليها، وكذلك استمرت بي الحياة إلى اليوم بين القراءة والتجربة والكتابة مع محاولة البحث عن الجديد الجميل في كل شيء.
• لمن تعزو الفضل فيما بلغته من شهرة أدبية؟
•• لكل من قرأت لهم؛ سواء من القدماء أو المعاصرين، بمعنى أني أعزو الفضل الأول للقراءة، القراءة شغلت الحيز الأكبر من وقتي منذ الطفولة وإلى اليوم، قرأت كثيراً ولكثيرين ومع ازدياد الكم المقروء بلا اهتمام بالكمِّ في البدايات ومع انتباه للمادة المقروءة والكيف مع مرور السنوات كان إيماني بقوله تعالى: «وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً» في ازدياد، وكان ذلك محفزاً على طلب المزيد، ويأتي بعد ذلك الحوار مع المثقفين حول ما قرأناه وما كتبناه ونشرناه، الحوار مع الآخر وفهمه وتبادل الأفكار معه يخلق مجالاً أوسع للإبداع والتجديد والتغيير الثقافي والمجتمعي باتجاه الأفضل، وهناك أيضاً تجاربي الخاصة مع الحياة والكتابة والأساليب، كل ذلك مع توفر وسائل النشر، والحرص قدر الإمكان أن آتي بجديد ومختلف ساهم في زيادة معرفة الناس بي، وهو ما أحب أن ينتهي إلى التقدير قبل أن يتحول إلى شهرة.
• أي باب تعشقه حتى اليوم؟ وأي نافذة يزعجك ضوؤها منذ الطفولة؟
•• القصة القصيرة والنقد هما مجالي الأحب إليّ، من خلال القصة القصيرة أستطيع أن أنقل رؤيتي الخاصة لما هو حولي من أفكار وأشخاص وأشياء، وبالنقد الذي أوجهه لأصدقائي ويوجهونه لي في حواراتنا المتبادلة المباشرة أو عبر الكتابة في وسائل النشر المختلفة، وأعشق كتابة المقالة الأدبية الموضوعية وأحب متابعة الفلسفة ومشكلاتها وتأويلاتها في مختلف مجالاتها. أما ما يزعجني منذ الطفولة وإلى اليوم فهو الغموض المبهم المتعمد الذي يلجأ إليه بعض المبدعين دون مسوِّغ من فن ودون خوف من رقيب ودون مانع من قدرة لغوية وثقافية.
• متى كتبت أول نص؟ هل تذكره، أو تحتفظ به؟
•• نعم، كتبته في المرحلة المتوسطة، وكان قصة قصيرة، ولعله موجود بين الكم المتراكم من الأوراق المحفوظة لدي من أزمنة مختلفة، وأتذكر أنه كان يحكي عن شاب يلبس «غترته» بطريقة كنا نسميها «البرشوتية» حينها، وهو موضوع قد يكون مستهلكاً اليوم؛ أي الحديث عن غرور بعض الشباب من خلال ما يلبسون عبر قصة قصيرة، لكن للبدايات رونقها أيضاً، و«العبرة بكمال النهايات لا نقص البدايات» كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-.
• لماذا كانت القصة خياراً؟ هل لها علاقة بالتخصص الدراسي؟
•• القصة القصيرة فن صعب، أو لنقل أنه السهل الممتنع، واخترتها من بين فنون الكتابة الأخرى لقدرتها على نقل أفكاري الخاصة للقراء بطريقة جاذبة ومشوقة، الأفكار العميقة جافة في الغالب؛ لذا فهي تحتاج مركباً من جمال وبساطة لتسويقها ونشرها في أوساط المجتمع. ولا علاقة مباشرة بالتخصص الدراسي بتوجهي إلى المجال الثقافي الأدبي، فأنا خريج كلية الإدارة الصناعية من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن.
• من هم آباؤك المؤسسون لتجربتك؟
•• كثيرون جدّاً، وفي مجالات مختلفة؛ محلياً وعربياً وعالمياً، حاولت قراءة أكبر عدد ممكن ممن آمنت بتميزهم وقدرتهم على التغيير وبراعتهم في ذلك في مجالات مختلفة؛ أدبياً واقتصادياً واجتماعياً وفلسفياً، لكن بما أننا نتحدث عن القصة القصيرة والرواية وروادها؛ فهناك جبير المليحان وتجربته الرائعة في منتدى القصة العربية، وهناك جارالله الحميد، وعبدالعزيز مشري، وإبراهيم الناصر الحمدان، ومحمد علوان، وغازي القصيبي، وعربياً هناك يوسف إدريس، وزكريا تامر، وبالتأكيد لا يمكن إغفال عبدالرحمن منيف، ونجيب محفوظ، وغير هؤلاء كثر ممن تأثرت بهم في البدايات، بل وما بعد البدايات أيضاً، نحن حلقة في سلسلة ثقافية ممتدة من قبل وستبقى من بعد.
• كيف تقرأ تجربة القصة في المملكة؟
•• تجربة قوية، وممتدة وناجحة ومبشرة ولا أشك في ذلك.
• مَن رموز إبداعها اليوم في المملكة؟
•• كثيرون والحمد لله، والتنافس بينهم لإبراز الإبداع الأجمل كبير ومحفز؛ منهم: جبير المليحان، محمد المزيني، خالد اليوسف، عبدالواحد الأنصاري، محمد علوان، محمود تراوري، أمل الفاران، خليل الفزيع، عبده خال، شروق الخالد، صلاح القرشي، محمد المطرفي، وفاء الطيب.. وآخرون قادمون بقوة.
• متى شعرت باستباحة حِمَى القصة من متطفلين وفضوليين؟
•• حين كتبها من لا يحسنون الكتابة بلغة سليمة، وحين مارسها من لا يجتهدون في البحث عن فكرة جديدة أو مختلفة، وحين أصبحت استسهالاً وهرباً من كتابة أخرى يجيدها الكاتب لكن فضّل القصة؛ لأنه يعتقد أنها الفن الأسهل، وهي ليست كذلك بالتأكيد حين نأخذ القصة على محمل الجد والرغبة في إبداع مختلف وقابل للبقاء لأجيال قادمة.
• ألم تنزعج من اكتساح فنون أخرى لباحات الكتابة؟
•• لا، لأن الفنون الأدبية الكتابية تتنوع، لكنها لا تتعارض، وتتقاطع في أحيان كثيرة، وفي تنوعها وتقاطعها إثراء للقارئ المتابع، وفيه أيضاً تحفيز على ابتكار الجديد مع المحافظة على القديم المؤسس، بل بالعكس انزعج حين نقتصر على فن واحد ونهمل فنوناً أخرى، الجمال والجلال يسعان الجميع.
• أين تقف اليوم من فضاء أتاح للجميع الكتابة؟ وما ردة فعلك على ما ترصده من كتابات «أي كلام»؟
•• أؤمن بأن البقاء لما ينفع الناس ومنهم القراء، أما الزبد سيختفي ويبقى الماء النمير، وليكتب من يشاء أن يكتب كما يشاء فإن خرج من بين ألف كتابة لا نحب بقصة جميلة، أو قصيدة رائعة، أو نقد غني، فذاك هو المطلوب، من جموع من شعراء لا نعرفهم اليوم ولا نتذكرهم خرج لنا المتنبي قديماً، ومحمد إبراهيم يعقوب حديثاً، ومن جموع من قصص لم تعجبنا ظهر لنا عبدالرحمن منيف وعبده خال، لننتظر ولنأمل الخير فعسي أن يخرج الفرد المتميز من بين الكثير الفج.
• أستشعر أحياناً من خلال سيرتك أن ما يعنيك هو الإنتاج، بصرف النظر عن نوع المنتج، ما صحة هذا الاستشعار؟ وما الصحيح إن لم يكن صحيحاً ؟
•• الفنون الأدبية والثقافية تتلاقح، لا يمكن أن تكتب قصة قصيرة اجتماعية مثلاً دون أن تكون ملماً ببعض المعلومات الدينية والنفسية، ولا يمكن أن تشرح مبدأً فلسفياً دون أن تملك القدرة على إبرازه في قالب يفهمه المخاطبون، أكتب القصة القصيرة، وفي الطريق أعرج على نقد كتابات الزملاء، ثم اكتب المقال الموضوع في الفلسفة مثلاً فأحتاج أن أضرب الأمثلة من خارج الفلسفة ليعي القارئ ما أقول، وقد أكتب تاريخ مرحلة ما، ولن أكون منصفاً إن لم أقرأ هذه المرحلة بعيون أبنائها قبل عيون من يرصد التجربة من بعدهم، وقس على ذلك أفكاراً كثيرة، الإنتاج المختلف هو ضريبة القراءة المختلفة والبحث عن سند قوي لكتابة يراد لها أن تكون ممتعة، وأن تكون نافعة في الوقت نفسه، ولن تكون كذلك دون قراءة منوعة تنتج كتابة متنوعة.
• هل تماهينا مع الآخرين ثقافياً بحكم سعة التواصل الاجتماعي؟
•• نعم، نحن نفعل ذلك كل يوم، ونختلف ونتفق كل يوم مع الآخرين، لكن لنسع فنكون صادقين مع أنفسنا ومع الآخر، وواثقين من قدرتنا على العمل والإنجاز في كل مجال في هذا العهد الزاهر الذي نعيشه في المملكة، ومن ذلك قدرتنا على المنافسة الثقافية والأدبية بإبداع خاص بنا يمثل بيئتنا بكل ما تحويه من تنوع وتغاير وتميز أيضاً.
• مِمَّ تخشى على الثقافة؟
•• من أدعيائها الذين لا يعملون، ويسوؤهم أن يعمل الناس كما عبَّر عن ذلك طه حسين -رحمه الله-، أخشى عليها من طرفي نقيض يقف في زاوية منه أولئك المتشائمون الذين يقللون من شأن كل إنجاز ثقافي فردي أو مؤسسي، وأولئك الذين يبالغون في تقدير الأعمال الضعيفة حدّ إفساد ذائقة القارئ وخلق جيل من الكتاب لا يستطيع التقدم؛ لأننا بالغنا في الثناء حدّ الغثاثة مادحين وحدّ الغرور مانحين.
• ما رأيك في قول «انتهاء عصر المؤسسات الثقافية» وابتداء زمن الفرد المؤسسة؟
•• أراها مقولة خاطئة، ما نشهده في وطننا على الأقل هو العكس، لكن يجب ألَّا تلغي المؤسسة دور الفرد؛ لأن مجموع الأفراد هو المؤسسة، وألّا يستهين الفرد بقدر المؤسسة؛ لأن العمل الجماعي مطلوب والله مع الجماعة. الغالب على الإبداع أن يكون فردياً، لكن محتضن الإبداع وراعيه في الغالب الأعم هو المؤسسة، وعسى ألا تتعارض الأدوار بين الفرد والمؤسسة.
• هل أنصف نقادنا مبدعينا؟
•• هم يحاولون الإنصاف قدر استطاعتهم، بمعنى الاطلاع على الأعمال (النصوص) وتقديمها للقراء، وإبراز ما فيها من جمال، وترويج المناسب من هذه الأعمال عبر الكتابة عنه في الوسائل الثقافية المتاحة. لكن مِمَّن النقاد يتاح له أن يقرأ كل عمل ينشر وهي كثيرة؟ وحتى إن وجد الوقت -وذلك صعب- فأين وسيلة النشر المناسبة إن تجاوزنا ما نكتبه من نقد انطباعي في الغالب عبر وسائل التواصل الاجتماعي؟ الناقد مثل المبدع، بل إن الملاحظ أن أغلب نقادنا يشتغلون بالإبداع والترجمة، وذلك يستغرق الكثير من الوقت، لكن لنجتهد ونحاول فذلك خير من ألا نعمل على الإطلاق.
• كم مرة فكرت في التوقف عن الكتابة؟ ولماذا؟
•• حتى الآن لم أفكر في ذلك، ولكني سأفكر فيه حين أصل إلى مرحلة أؤمن فيها بأن لا جدوى من الكتابة، وأن الكتابة فعل عبثي لا فائدة منه، وقد تعوذ نبينا الكريم -عليه الصلاة والسلام- من دعوة لا يستجاب لها.
• بماذا تعالج مزاجية المثقف فيك إذا احتدت عليك؟
•• بمزيد من القراءة والتأمل، وربما بمشاهدة بعض الأفلام التي ينصح الأصدقاء بمشاهدتها، وأفضّل غالباً الأعمال التي اقتبست من روايات كنت قد قرأتها، وربما انصرف إلى سماع بعض الغناء الذي أحب أو الحديث مع الزملاء المنشغلين بالعمل العام فأفهم منهم وأتعرّف على ما يعرفونه ولا أعرفه.
• ما الجديد الذي تعمل عليه اليوم؟
•• أعمل على الترجمة، ترجمة عدد من القصص القصيرة التي أحب، ومجموعة من القصائد التي أحب أن يستمتع بها أصدقائي القراء، والترجمة إبداع آخر كما قال أستاذنا الكبير إحسان عباس، وقد أنجزت جزءاً كبيراً من ذلك، وعسى أن يصل إلى يد ناشر مثقف قريباً -بإذن الله-.