انين الصمت
مراقبة عام
يعد عضو مجلس الأمة لدورات انتخابية عدة، وزير التربية والتعليم العالي وزير العدل بالكويت سابقاً أحمد عبدالمحسن تركي المليفي؛ شخصية نقيّة الفكر، صادقة التعبير، ذكيّة الحسّ، يعبّر عن آرائه دون مواربة ولا وجل، ويشخصّ أدواء المرحلة عن دراية معرفية وإدارية. هنا يبسط لنا القول كما عهدناه دوماً، ليضعنا أمام تصوره وقراءاته للواقع، واستقراء المستقبل، وهنا نص الحوار:
• كيف هي الشقيقة الكويت اليوم على مستوى الأفكار والتيارات والطرح الثقافي والإعلامي؟
•• طبيعة النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي في الكويت منذ نشأتها، جعلتها تعيش في مساحة من الحرية السياسية والاجتماعية والثقافية. هذه المساحة أوجدت الأفكار المتنوعة صاحبها تطور ثقافي ونمو اقتصادي، إلا أن الأعوام الأخيرة، بدأ شكل من أشكال التراجع في مساحات عدة؛ خصوصاً الثقافية والاجتماعية والتوسع في مساحة أخرى وهي السياسية. ورغم أن المساحة السياسية اتسعت حالياً -أحياناً بإفراط- إلّا أن هذا التوسع كان على حساب المساحات الأخرى للأسف التي أصبحت حلقاتها تضيق على الجانب الثقافي وهي معادلة صعب فهمها.
• ما سبب التراجع؟
•• يحاول الفكر الديني السياسي القبلي السيطرة على التوجهات بما يتفق مع تفسيراته للدين لا مع الدين نفسه باختلاف تفسيراته. وهذا يعكس من جانب آخر ضعف هذا التفسير وخوار من يحمله فهم يعتمدون في المعركة الفكرية على المنع لا المواجهة والنقاش والتفنيد مع الرأي الآخر.
• ما التحديات الاجتماعية والفكرية؟
•• الكويت دولة مدنية لها دستور وقوانين تكفل حرية الرأي وحرية الاعتقاد في إطار من الاعتدال دون إفراط أو تفريط، وهناك قوة تحمي هذه الحرية وهي الدستور والقانون وتلزم بتطبيقه وتعاقب من يخالفه، وكلما تمسكت الدولة بتطبيق القوانين كانت مؤسسة الدولة أقوى من المؤسسات الاجتماعية.
• بصفتك القانونية.. لماذا تحاول بعض المكونات العلوّ أو التعالي على النظام والدولة؟ من أين تستمد التعبئة والتجييش لدرجة التأثير في القرارات؟
•• مؤسف جداً أن تصبح مؤسسة القبيلة أو الطائفة أو العائلة أقوى من مؤسسة الدولة، فالمواطن لا يؤثر قبيلته أو عائلته أو مذهبه في علاقاته مع الدولة، لأنه سيقسم المجتمع إلى أجزاء صغيرة ينافس بعضها بعضاً من أجل مكاسب سياسية أو وظيفية أو اقتصادية.
وهذا لا يعني محاربة مكونات المجتمع القبلية أو الدينية، إنما المقصود منه حصرها في جانبها الاجتماعي والديني، أما المواطنة والحقوق والواجبات فيحكمها القانون بالعدالة والمساواة.
• هل نجحت التجارب الانتخابية عربياً في إرساء قيم المدنية فعلياً؟
•• هناك فرق شاسع بين الانتخابات والديمقراطية، الانتخابات هي مظهر من مظاهر الديمقراطية، أما الديمقراطية فهي مساحة الحرية التي يتمتع فيها المواطن ليكون شريكاً في بناء وطنه، كما أن الديمقراطية غير مقتصرة على الجانب السياسي فهناك ديمقراطية الإدارة والاقتصاد والثقافة؛ وهي الحرية التي يمارس فيها الإنسان هواياته ويطرح فيها أفكاره دون خوف أو قلق من الإقصاء او الاعتقال، لذلك الديمقراطية الحقيقية مرتبطة بالتنمية، لأنها تسمح لأي مواطن يحمل فكراً نيراً وعطاءً خيراً لوطنه والمجتمع بأن يشارك في صناعة قرار وطنه دون أن يكون بحاجة الى واسطة أو معرفة أو كما نقول «عزوة».
الديمقراطية تحتاج إلى بيئة تتوفر فيها حرية الرأي لكي تنمو وتترسخ، تحتاج الى بيئة تحترم القانون لكي تُمارس بصورة سليمة، تحتاج إلى ثقافة المصلحة العامة قبل الخاصة، والواقعية بدل المثالية.
• بين الرقابة والتشريع وتمثيل الشعب.. أي الأركان الثلاثة نجحت فيها البرلمانات العربية؟ وأيها أخفقت فيه؟
•• ما يحدث في الوطن العربي بعيد جداً عن الممارسة الديمقراطية الصحيحة (شكليات) وكما يقال: أدوات لتجميل ما يمكن تجميله، وهنا لا أعنى فقط الأنظمة، فالجميع شريك في تشويه المدنية لأنها جزء منه ومستفيدة منها؛ لذلك لا يمكن أن نقول إن الديمقراطية في وطننا العربي أخفقت لأنها في الحقيقة لم تُطبق بالشكل الصحيح.
• ماذا خرجت به من انطباعات عن واقع التعليم ومستقبله في خليجنا العربي؟
•• بناء الإنسان هو الركن الأساسي في أي تنمية، والتعليم أحد أهم أركان هذا البناء، لذلك قيل إذا أردت أن تدمر أمة فابدأ بتدمير التعليم، وإذا أردت أن تبني أمة فابدأ كذلك بتدمير التعليم. للأسف التعليم في الوطن العربي يقوم على الكم لا الكيف. التعليم في الوطن العربي يقوم على الحفظ والترديد لا الفهم والابتكار والإبداع. لذلك التعليم في الوطن العربي يقدم موظفين لا مبدعين. التعليم في وطننا يحارب أمية ولا يخلق ثقافة. التعليم في الوطن العربي يخرج نسخة جديدة من كتاب قديم. لذلك نحن نحتاج الى ثورة تعليمية تبدأ بالمناهج وتغييرها، وبالمعلم وتطويره، وبالأسرة وتغيير مفهوم التفوق عندها وأنه لا ينحصر بالدرجات العالية بل بالاستيعاب العالي والفهم العميق، نحتاج إلى ثورة في تغيير مفهوم المجتمع عن معيار تقييم الإنسان وتحديد المواطنة بما يقوم به من عمل منتج للمجتمع مهما صغر أو كبر، قيمة الفرد بما يقدمه لوطنه لا بعائلته أو ماله أو شكله، وكما قيل:
ليس الفتى من يقول كان أبي *** ولكن الفتى من قال ها أنذا.
• ما شرط تميّز التعليم في الخليج؟
•• أن يكون التحديث والتطوير على يد عقول وطنية مخلصة، لذلك كثيراً ما حذرت من نصائح المنظمات الدولية واقتراحاتها التي تسعى من خلالها إلى أن نبقى متلقين لا قياديين، ومستهلكين لا مصدرين. وهذا لا يعني ألا نستفيد من تجارب الآخرين لكن بالطريقة التي تناسبنا، فالتعليم يجب أن ينطلق ويراعي في تفاصيله قيم المجتمع وطبيعته وسلوكياته.
يجب أن نأخذ الحذر من نصائح المنظمات الدولية، فهي ربيبة الاستعمار بطريقة متحضرة؛ فالدول الاستعمارية بعد أن سادت واعتلت عرش الصناعة والتقدم ركلت السلم جانباً لكي لا نصعد إلى جانبها، فهم يريدوننا في القاع حتى نستمر تابعين لهم، خاضعين لأوامرهم، نعيش على ما يمنحوننا إياه، لذلك لا يمكن أن تأتي نصائحهم كاملة ولا صادقة.
أما التعليم العالي فيجب أن يُنظر إليه بصورة مختلفة، لا يجوز أن تكون الشهادات العالية ترفاً علمياً وبحثياً فيه إهدار للمال والوقت، فليس من وظائف التعليم دفع المزيد من الخريجين الجدد للمجتمع، بل إن من أهم وظائف التعليم العالي اكتشاف المعرفة الجديدة والبناء على المعارف القديمة وتوجيه الدارسين لها، كما يجب أن يترجم إنتاجها العملي إلى عمل تطبيقي يستفيد منه المجتمع في مجال الاختراع والتطوير الاقتصادي والثقافي.
• متى شعرت بخطورة فكر «الإخوان»؟ وكيف نجحت في التخلص منه والخروج من دائرته؟
•• فكر «الإخوان» فكر خطير، فهو يؤسس فكراً يشعر حامله بالغربة في وطنه والحقد على من سواه، وأعتقد أن الإنجليز أسهموا بطريقة أو بأخرى في إنجاح هذا الفكر والسماح له بالتوسع ليخلقوا ثغرات في جسد الأمة، ويزرعوا قنابل موقوتة على أرضها، وصراعاً فكرياً متطرفاً قابلاً للتفجير في أي وقت، لتمثل هذه الحالة قلقاً للأنظمة وخوفاً يدفعهم للعودة الى حضن المستعمر طلباً للحماية مقابل شروط يضعها المستعمر الذي خرج مهزوماً من الشباك ليعود منتصراً من الباب، بناء على طلب الأنظمة لخوفها وقلقها.
للأسف الأحزاب السياسية جميعها -دينية وغيرها- في الخليج غير وطنية فهي عبارة عن أفرع لأحزاب خارجية تستمد منها فكرها وأدبياتها وتوجيهاتها، وهذه الأحزاب العالمية لا يهمها من دول الخليج العربي سوى الحصول على الأموال فهي تعتبرها «حصالة» أو «خزنة» للأموال تغرف منها متى احتاجت، لذلك لا نجد في أدبيات هذه الأحزاب أي إشارة الى الولاء للوطن وحمايته والمحافظة على أمنه واستقراره، بل نجدها على عكس ذلك، تستغل كل فرصة للطعن في الوطن ومنجزاته وقياداته تمهيداً لتدميره وزعزعة استقراره متى حانت لها الفرصة.
لذلك حرِصتُ عقب ما سمي «الربيع العربي» على أن أتكلم وأعقد الندوات وأصدرت كتاب «تجربتي» أشرت فيه إلى تجربة الانضمام إلى جماعة «الإخوان المسلمين» وأسباب الخروج منها، وحذرت الشباب -خصوصاً حسنو النية من المنضمين لها وغيرهم- من الوقوع في الفخ الذي يقودونهم إليه، وأن بعض قادتها وأصحاب القرار فيها تهمهم مصالحهم التي ارتبطت بمصالح قيادات التنظيم العالمي لتحقيق الرئاسة وكسب المال على حساب الوطن والمبادئ التي يدعون.
• ألم توظف خبراتك الحركية في التصدي لطرح الإسلام السياسي؟
•• أنا لا أتفق مع تسمية هذه الجماعات بجماعات الإسلام السياسي، فنحن كلنا مسلمون والحمد لله، والدين والسياسة مرتبطان؛ فالإسلام دين شامل. ولكن هؤلاء أحزاب سياسية تستخدم مبادئ الإسلام لتحقيق أهدافها السياسية في السيطرة، مستغلة عواطف العامة وحسن نواياهم.
• ما نتائج قراءتك لواقع الإسلام السياسي اليوم؟
•• هم لا يهتمون بتعاليم الدين إلا إذا كانت تخدم أهدافهم في التوسع والهيمنة على الدولة، خذ مثلاً الاختلاط يثيرونه في الوقت الذي يريدون منع الآخرين من التجمُّع، في حين أن حفلاتهم واجتماعاتهم -خصوصاً السياسية- يغضون الطرف عنها لأنها تخدم مصالحهم.
خذ كذلك موقفهم من علاقة تركيا بإسرائيل فهي لا تمثل لهم قضية وإذا أثاروها أثاروها على استحياء لارتباط مصالحهم مع تركيا، في المقابل فإن أي علاقة إسرائيلية مع أي دولة لا يرتبطون معها بمصالح يقيمون الدنيا ولا يقعدونها.
فهم سياسيون يستخدمون الدين في وقت الحاجة، ولا يمثلون حتى الإسلام السياسي.
• لماذا يعادي الإسلام السياسي الدولة الوطنية؟
•• هم يحاربون الهوية الوطنية وكل ما يرمز لها من عَلمْ وتحية له وغيرها من رموز لأنهم يريدون خصوصاً الشباب دون هوية وطنية ليغرسوا بدلاً عنها الهوية العالمية التي يدعون لها والولاء للحزب العالمي الذي يرتبطون به، ليكون من السهل توجيه الشباب للانقضاض على وطنهم في الوقت الذي يجدونه مناسباً فهم دائماً متحفزون لذلك ومستعدون إعلامياً ونفسياً وجسدياً.
• هل تجيد الخطابات والآليات الحركية الالتفاف على مشاريع الدولة وركوب الأحدث من الموجات؟
•• «الإخوان» عندهم قدرة على التلون والتعامل مع الظروف والانحناء للرياح ولو على حساب المبادئ والقيم التي ينادون بها، لذلك تجد حركتهم مستمرة نتيجة لهذه القدرة، كذلك في السنوات الأخيرة أصبحت لديهم القدرة على التخفي حتى شكلياً في المظهر والملبس بل وأحياناً حتى في الحوار والحديث مع الآخرين الى أن يتمكنوا، وما إنْ يتمكن أحدهم من الوصول الى المنصب حتى يفتح المجال لهم ليسيطروا على مفاصل الدولة.
• أين تكمن مغذيات الحس الخليجي للحفاظ على الهوية والانتماء؟
•• دول مجلس التعاون الخليجي محاطة بدول كبيرة لها أهدافها، وبقاء دول مجلس التعاون الخليجي على هذه الصورة سيجعلها عرضة للابتزاز وسهلة للسيطرة، نعم نحن كدول خليجية لا نملك ولا نريد مشروعاً للسيطرة على الآخرين، ولكن في الوقت نفسه يجب أن نحافظ على كياننا واستقلاليتنا السياسية والاقتصادية والثقافية. وهذا لن يتحقق في ظل الوضع القائم، الكيانات الصغيرة لا تستطيع أن تصمد أمام عالم متطور، سريع الحركة، شديد التنافس، خصوصاً على الموارد التي حبانا الله بها ويسيل لها لعاب الجميع؛ البعيد قبل القريب.
• ما التحديات التي تقلقك مفكراً ومسؤولاً؟
•• التحديات القادمة كبيرة وخطيرة، والحروب القادمة ستكون بيولوجية ربما تؤدي إلى إغلاق العالم أكثر مما حدث في جائحة كورونا، والدول المنتجة لن تستطيع أن تصدر منتجاتها إما لأن العالم سيغلق أو لحاجتها لها وهنا تحدث الأزمة الحقيقية للدول غير المنتجة، فقد تكون لديك الأموال ولكنها لن تساوي قيمتها لعدم وجود ما تستورده، وهنا تكون المشكلة لهذه الدول التي لن تستطيع أن تلبي حاجات شعوبها في المأكل والمشرب والحاجات الأساسية فتحدث الاضطرابات وستختفي هذه الدول.
• بماذا تنصح دول منظومتنا الخليجية؟
•• على دول الخليج -وهي تملك كل مقومات النجاح والاستمرار- أن تكون من أهم مراكز العالم اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، وأن تعمل مجتمعة وتضع الخطط من أجل الوصول إلى هذا الهدف معتمدة على التعاون لا التنافس، والتكامل لا التنافر، وتحقيق مزيد من الانفتاح على بعضها.
كذلك دول مجلس التعاون أصبحت تملك الطاقات البشرية المتعلمة والتجارب المتنوعة، عليها أن تعتمد عليها وتبتعد عن توصيات ودراسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي المعلبة، التي ما إنْ تُقدم الى بلد إلا وتحقق فيه مزيداً من الفقر والمعاناة للشعوب وما يؤدي له ذلك من اضطرابات ومظاهرات وثورات.
ولا ننسى أنه باعترافات قيادات ما سمي «الربيع العربي» أن فشل هذه التحركات في دول الخليج العربي يعود إلى ما تتمتع به شعوبها من بحبوحة في العيش وعلاقة خاصة بين القيادات وشعوبها، فهي علاقة أبوية اجتماعية أكثر منها رسمية. لذلك أصبحت مهمتهم للموجة الثانية من «الربيع العربي» المزعوم لتحقيق الدمار الذي نراه في مخلفات ما حدث في بعض الدول هو تهيئة البيئة الخليجية المناسبة التي تنطلق منها الثورات وهي الفقر والجهل وفقدان العدالة والمساواة.
المطلوب كذلك في الجانب الاقتصادي إنشاء بنك للاستثمار الخليجي تسهم في رأسماله كل دول الخليج وتكون مهمته منح القروض الاستثمارية التي تحتاجها دول مجلس التعاون دون حاجة للجوء إلى البنوك العالمية أو صندوق النقد الدولي، إن هذا الصندوق يجعلنا في غنى عن اللجوء الى تلك البنوك التي تفرض علينا شروطاً تحقق مصالحها وتمس سيادة الدولة قبل اقتصادها، كما أن إنشاء مثل هذا الصندوق سيغنينا عن التأثر بشركات التصنيف العالمي التي تثير تقاريرها الشكوك والشبهات في تصنيفات الدول، وتكون لنا شركات تصنيف خاصة بنا.
الفرصة سانحة لدول الخليج، فالعالم يعيش في مخاض بانتظار قوى عالمية جديدة نستطيع أن نكون أحدها.
لذلك عليها ألا نتقبل النصائح كما هي، علينا أن ندرسها ونتفحصها ونقيمها، فهم لا يعرفوننا بقدر ما نعرف أنفسنا، ولا يعرفون مصلحتنا أكثر مما نعرفها ونطمح إلى تحقيقها.
• ما انطباعك عن التحولات في المملكة؟
•• لا شك أن المملكة منذ أعوام وهي تخطو خطوات ثابتة وتقفز قفزات مدروسة نحو المستقبل، وكل مقومات النجاح متوفرة، فهي تملك رؤية واضحة شرحها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، كما لديها القرار الجريء، وتعتمد مبدأ الثواب والعقاب، ولديها الإمكانات البشرية والمادية، فهي الحصان الرابح الذي سيجر عربة التنمية في المنطقة.
• كيف هي الشقيقة الكويت اليوم على مستوى الأفكار والتيارات والطرح الثقافي والإعلامي؟
•• طبيعة النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي في الكويت منذ نشأتها، جعلتها تعيش في مساحة من الحرية السياسية والاجتماعية والثقافية. هذه المساحة أوجدت الأفكار المتنوعة صاحبها تطور ثقافي ونمو اقتصادي، إلا أن الأعوام الأخيرة، بدأ شكل من أشكال التراجع في مساحات عدة؛ خصوصاً الثقافية والاجتماعية والتوسع في مساحة أخرى وهي السياسية. ورغم أن المساحة السياسية اتسعت حالياً -أحياناً بإفراط- إلّا أن هذا التوسع كان على حساب المساحات الأخرى للأسف التي أصبحت حلقاتها تضيق على الجانب الثقافي وهي معادلة صعب فهمها.
• ما سبب التراجع؟
•• يحاول الفكر الديني السياسي القبلي السيطرة على التوجهات بما يتفق مع تفسيراته للدين لا مع الدين نفسه باختلاف تفسيراته. وهذا يعكس من جانب آخر ضعف هذا التفسير وخوار من يحمله فهم يعتمدون في المعركة الفكرية على المنع لا المواجهة والنقاش والتفنيد مع الرأي الآخر.
• ما التحديات الاجتماعية والفكرية؟
•• الكويت دولة مدنية لها دستور وقوانين تكفل حرية الرأي وحرية الاعتقاد في إطار من الاعتدال دون إفراط أو تفريط، وهناك قوة تحمي هذه الحرية وهي الدستور والقانون وتلزم بتطبيقه وتعاقب من يخالفه، وكلما تمسكت الدولة بتطبيق القوانين كانت مؤسسة الدولة أقوى من المؤسسات الاجتماعية.
• بصفتك القانونية.. لماذا تحاول بعض المكونات العلوّ أو التعالي على النظام والدولة؟ من أين تستمد التعبئة والتجييش لدرجة التأثير في القرارات؟
•• مؤسف جداً أن تصبح مؤسسة القبيلة أو الطائفة أو العائلة أقوى من مؤسسة الدولة، فالمواطن لا يؤثر قبيلته أو عائلته أو مذهبه في علاقاته مع الدولة، لأنه سيقسم المجتمع إلى أجزاء صغيرة ينافس بعضها بعضاً من أجل مكاسب سياسية أو وظيفية أو اقتصادية.
وهذا لا يعني محاربة مكونات المجتمع القبلية أو الدينية، إنما المقصود منه حصرها في جانبها الاجتماعي والديني، أما المواطنة والحقوق والواجبات فيحكمها القانون بالعدالة والمساواة.
• هل نجحت التجارب الانتخابية عربياً في إرساء قيم المدنية فعلياً؟
•• هناك فرق شاسع بين الانتخابات والديمقراطية، الانتخابات هي مظهر من مظاهر الديمقراطية، أما الديمقراطية فهي مساحة الحرية التي يتمتع فيها المواطن ليكون شريكاً في بناء وطنه، كما أن الديمقراطية غير مقتصرة على الجانب السياسي فهناك ديمقراطية الإدارة والاقتصاد والثقافة؛ وهي الحرية التي يمارس فيها الإنسان هواياته ويطرح فيها أفكاره دون خوف أو قلق من الإقصاء او الاعتقال، لذلك الديمقراطية الحقيقية مرتبطة بالتنمية، لأنها تسمح لأي مواطن يحمل فكراً نيراً وعطاءً خيراً لوطنه والمجتمع بأن يشارك في صناعة قرار وطنه دون أن يكون بحاجة الى واسطة أو معرفة أو كما نقول «عزوة».
الديمقراطية تحتاج إلى بيئة تتوفر فيها حرية الرأي لكي تنمو وتترسخ، تحتاج الى بيئة تحترم القانون لكي تُمارس بصورة سليمة، تحتاج إلى ثقافة المصلحة العامة قبل الخاصة، والواقعية بدل المثالية.
• بين الرقابة والتشريع وتمثيل الشعب.. أي الأركان الثلاثة نجحت فيها البرلمانات العربية؟ وأيها أخفقت فيه؟
•• ما يحدث في الوطن العربي بعيد جداً عن الممارسة الديمقراطية الصحيحة (شكليات) وكما يقال: أدوات لتجميل ما يمكن تجميله، وهنا لا أعنى فقط الأنظمة، فالجميع شريك في تشويه المدنية لأنها جزء منه ومستفيدة منها؛ لذلك لا يمكن أن نقول إن الديمقراطية في وطننا العربي أخفقت لأنها في الحقيقة لم تُطبق بالشكل الصحيح.
• ماذا خرجت به من انطباعات عن واقع التعليم ومستقبله في خليجنا العربي؟
•• بناء الإنسان هو الركن الأساسي في أي تنمية، والتعليم أحد أهم أركان هذا البناء، لذلك قيل إذا أردت أن تدمر أمة فابدأ بتدمير التعليم، وإذا أردت أن تبني أمة فابدأ كذلك بتدمير التعليم. للأسف التعليم في الوطن العربي يقوم على الكم لا الكيف. التعليم في الوطن العربي يقوم على الحفظ والترديد لا الفهم والابتكار والإبداع. لذلك التعليم في الوطن العربي يقدم موظفين لا مبدعين. التعليم في وطننا يحارب أمية ولا يخلق ثقافة. التعليم في الوطن العربي يخرج نسخة جديدة من كتاب قديم. لذلك نحن نحتاج الى ثورة تعليمية تبدأ بالمناهج وتغييرها، وبالمعلم وتطويره، وبالأسرة وتغيير مفهوم التفوق عندها وأنه لا ينحصر بالدرجات العالية بل بالاستيعاب العالي والفهم العميق، نحتاج إلى ثورة في تغيير مفهوم المجتمع عن معيار تقييم الإنسان وتحديد المواطنة بما يقوم به من عمل منتج للمجتمع مهما صغر أو كبر، قيمة الفرد بما يقدمه لوطنه لا بعائلته أو ماله أو شكله، وكما قيل:
ليس الفتى من يقول كان أبي *** ولكن الفتى من قال ها أنذا.
• ما شرط تميّز التعليم في الخليج؟
•• أن يكون التحديث والتطوير على يد عقول وطنية مخلصة، لذلك كثيراً ما حذرت من نصائح المنظمات الدولية واقتراحاتها التي تسعى من خلالها إلى أن نبقى متلقين لا قياديين، ومستهلكين لا مصدرين. وهذا لا يعني ألا نستفيد من تجارب الآخرين لكن بالطريقة التي تناسبنا، فالتعليم يجب أن ينطلق ويراعي في تفاصيله قيم المجتمع وطبيعته وسلوكياته.
يجب أن نأخذ الحذر من نصائح المنظمات الدولية، فهي ربيبة الاستعمار بطريقة متحضرة؛ فالدول الاستعمارية بعد أن سادت واعتلت عرش الصناعة والتقدم ركلت السلم جانباً لكي لا نصعد إلى جانبها، فهم يريدوننا في القاع حتى نستمر تابعين لهم، خاضعين لأوامرهم، نعيش على ما يمنحوننا إياه، لذلك لا يمكن أن تأتي نصائحهم كاملة ولا صادقة.
أما التعليم العالي فيجب أن يُنظر إليه بصورة مختلفة، لا يجوز أن تكون الشهادات العالية ترفاً علمياً وبحثياً فيه إهدار للمال والوقت، فليس من وظائف التعليم دفع المزيد من الخريجين الجدد للمجتمع، بل إن من أهم وظائف التعليم العالي اكتشاف المعرفة الجديدة والبناء على المعارف القديمة وتوجيه الدارسين لها، كما يجب أن يترجم إنتاجها العملي إلى عمل تطبيقي يستفيد منه المجتمع في مجال الاختراع والتطوير الاقتصادي والثقافي.
• متى شعرت بخطورة فكر «الإخوان»؟ وكيف نجحت في التخلص منه والخروج من دائرته؟
•• فكر «الإخوان» فكر خطير، فهو يؤسس فكراً يشعر حامله بالغربة في وطنه والحقد على من سواه، وأعتقد أن الإنجليز أسهموا بطريقة أو بأخرى في إنجاح هذا الفكر والسماح له بالتوسع ليخلقوا ثغرات في جسد الأمة، ويزرعوا قنابل موقوتة على أرضها، وصراعاً فكرياً متطرفاً قابلاً للتفجير في أي وقت، لتمثل هذه الحالة قلقاً للأنظمة وخوفاً يدفعهم للعودة الى حضن المستعمر طلباً للحماية مقابل شروط يضعها المستعمر الذي خرج مهزوماً من الشباك ليعود منتصراً من الباب، بناء على طلب الأنظمة لخوفها وقلقها.
للأسف الأحزاب السياسية جميعها -دينية وغيرها- في الخليج غير وطنية فهي عبارة عن أفرع لأحزاب خارجية تستمد منها فكرها وأدبياتها وتوجيهاتها، وهذه الأحزاب العالمية لا يهمها من دول الخليج العربي سوى الحصول على الأموال فهي تعتبرها «حصالة» أو «خزنة» للأموال تغرف منها متى احتاجت، لذلك لا نجد في أدبيات هذه الأحزاب أي إشارة الى الولاء للوطن وحمايته والمحافظة على أمنه واستقراره، بل نجدها على عكس ذلك، تستغل كل فرصة للطعن في الوطن ومنجزاته وقياداته تمهيداً لتدميره وزعزعة استقراره متى حانت لها الفرصة.
لذلك حرِصتُ عقب ما سمي «الربيع العربي» على أن أتكلم وأعقد الندوات وأصدرت كتاب «تجربتي» أشرت فيه إلى تجربة الانضمام إلى جماعة «الإخوان المسلمين» وأسباب الخروج منها، وحذرت الشباب -خصوصاً حسنو النية من المنضمين لها وغيرهم- من الوقوع في الفخ الذي يقودونهم إليه، وأن بعض قادتها وأصحاب القرار فيها تهمهم مصالحهم التي ارتبطت بمصالح قيادات التنظيم العالمي لتحقيق الرئاسة وكسب المال على حساب الوطن والمبادئ التي يدعون.
• ألم توظف خبراتك الحركية في التصدي لطرح الإسلام السياسي؟
•• أنا لا أتفق مع تسمية هذه الجماعات بجماعات الإسلام السياسي، فنحن كلنا مسلمون والحمد لله، والدين والسياسة مرتبطان؛ فالإسلام دين شامل. ولكن هؤلاء أحزاب سياسية تستخدم مبادئ الإسلام لتحقيق أهدافها السياسية في السيطرة، مستغلة عواطف العامة وحسن نواياهم.
• ما نتائج قراءتك لواقع الإسلام السياسي اليوم؟
•• هم لا يهتمون بتعاليم الدين إلا إذا كانت تخدم أهدافهم في التوسع والهيمنة على الدولة، خذ مثلاً الاختلاط يثيرونه في الوقت الذي يريدون منع الآخرين من التجمُّع، في حين أن حفلاتهم واجتماعاتهم -خصوصاً السياسية- يغضون الطرف عنها لأنها تخدم مصالحهم.
خذ كذلك موقفهم من علاقة تركيا بإسرائيل فهي لا تمثل لهم قضية وإذا أثاروها أثاروها على استحياء لارتباط مصالحهم مع تركيا، في المقابل فإن أي علاقة إسرائيلية مع أي دولة لا يرتبطون معها بمصالح يقيمون الدنيا ولا يقعدونها.
فهم سياسيون يستخدمون الدين في وقت الحاجة، ولا يمثلون حتى الإسلام السياسي.
• لماذا يعادي الإسلام السياسي الدولة الوطنية؟
•• هم يحاربون الهوية الوطنية وكل ما يرمز لها من عَلمْ وتحية له وغيرها من رموز لأنهم يريدون خصوصاً الشباب دون هوية وطنية ليغرسوا بدلاً عنها الهوية العالمية التي يدعون لها والولاء للحزب العالمي الذي يرتبطون به، ليكون من السهل توجيه الشباب للانقضاض على وطنهم في الوقت الذي يجدونه مناسباً فهم دائماً متحفزون لذلك ومستعدون إعلامياً ونفسياً وجسدياً.
• هل تجيد الخطابات والآليات الحركية الالتفاف على مشاريع الدولة وركوب الأحدث من الموجات؟
•• «الإخوان» عندهم قدرة على التلون والتعامل مع الظروف والانحناء للرياح ولو على حساب المبادئ والقيم التي ينادون بها، لذلك تجد حركتهم مستمرة نتيجة لهذه القدرة، كذلك في السنوات الأخيرة أصبحت لديهم القدرة على التخفي حتى شكلياً في المظهر والملبس بل وأحياناً حتى في الحوار والحديث مع الآخرين الى أن يتمكنوا، وما إنْ يتمكن أحدهم من الوصول الى المنصب حتى يفتح المجال لهم ليسيطروا على مفاصل الدولة.
• أين تكمن مغذيات الحس الخليجي للحفاظ على الهوية والانتماء؟
•• دول مجلس التعاون الخليجي محاطة بدول كبيرة لها أهدافها، وبقاء دول مجلس التعاون الخليجي على هذه الصورة سيجعلها عرضة للابتزاز وسهلة للسيطرة، نعم نحن كدول خليجية لا نملك ولا نريد مشروعاً للسيطرة على الآخرين، ولكن في الوقت نفسه يجب أن نحافظ على كياننا واستقلاليتنا السياسية والاقتصادية والثقافية. وهذا لن يتحقق في ظل الوضع القائم، الكيانات الصغيرة لا تستطيع أن تصمد أمام عالم متطور، سريع الحركة، شديد التنافس، خصوصاً على الموارد التي حبانا الله بها ويسيل لها لعاب الجميع؛ البعيد قبل القريب.
• ما التحديات التي تقلقك مفكراً ومسؤولاً؟
•• التحديات القادمة كبيرة وخطيرة، والحروب القادمة ستكون بيولوجية ربما تؤدي إلى إغلاق العالم أكثر مما حدث في جائحة كورونا، والدول المنتجة لن تستطيع أن تصدر منتجاتها إما لأن العالم سيغلق أو لحاجتها لها وهنا تحدث الأزمة الحقيقية للدول غير المنتجة، فقد تكون لديك الأموال ولكنها لن تساوي قيمتها لعدم وجود ما تستورده، وهنا تكون المشكلة لهذه الدول التي لن تستطيع أن تلبي حاجات شعوبها في المأكل والمشرب والحاجات الأساسية فتحدث الاضطرابات وستختفي هذه الدول.
• بماذا تنصح دول منظومتنا الخليجية؟
•• على دول الخليج -وهي تملك كل مقومات النجاح والاستمرار- أن تكون من أهم مراكز العالم اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، وأن تعمل مجتمعة وتضع الخطط من أجل الوصول إلى هذا الهدف معتمدة على التعاون لا التنافس، والتكامل لا التنافر، وتحقيق مزيد من الانفتاح على بعضها.
كذلك دول مجلس التعاون أصبحت تملك الطاقات البشرية المتعلمة والتجارب المتنوعة، عليها أن تعتمد عليها وتبتعد عن توصيات ودراسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي المعلبة، التي ما إنْ تُقدم الى بلد إلا وتحقق فيه مزيداً من الفقر والمعاناة للشعوب وما يؤدي له ذلك من اضطرابات ومظاهرات وثورات.
ولا ننسى أنه باعترافات قيادات ما سمي «الربيع العربي» أن فشل هذه التحركات في دول الخليج العربي يعود إلى ما تتمتع به شعوبها من بحبوحة في العيش وعلاقة خاصة بين القيادات وشعوبها، فهي علاقة أبوية اجتماعية أكثر منها رسمية. لذلك أصبحت مهمتهم للموجة الثانية من «الربيع العربي» المزعوم لتحقيق الدمار الذي نراه في مخلفات ما حدث في بعض الدول هو تهيئة البيئة الخليجية المناسبة التي تنطلق منها الثورات وهي الفقر والجهل وفقدان العدالة والمساواة.
المطلوب كذلك في الجانب الاقتصادي إنشاء بنك للاستثمار الخليجي تسهم في رأسماله كل دول الخليج وتكون مهمته منح القروض الاستثمارية التي تحتاجها دول مجلس التعاون دون حاجة للجوء إلى البنوك العالمية أو صندوق النقد الدولي، إن هذا الصندوق يجعلنا في غنى عن اللجوء الى تلك البنوك التي تفرض علينا شروطاً تحقق مصالحها وتمس سيادة الدولة قبل اقتصادها، كما أن إنشاء مثل هذا الصندوق سيغنينا عن التأثر بشركات التصنيف العالمي التي تثير تقاريرها الشكوك والشبهات في تصنيفات الدول، وتكون لنا شركات تصنيف خاصة بنا.
الفرصة سانحة لدول الخليج، فالعالم يعيش في مخاض بانتظار قوى عالمية جديدة نستطيع أن نكون أحدها.
لذلك عليها ألا نتقبل النصائح كما هي، علينا أن ندرسها ونتفحصها ونقيمها، فهم لا يعرفوننا بقدر ما نعرف أنفسنا، ولا يعرفون مصلحتنا أكثر مما نعرفها ونطمح إلى تحقيقها.
• ما انطباعك عن التحولات في المملكة؟
•• لا شك أن المملكة منذ أعوام وهي تخطو خطوات ثابتة وتقفز قفزات مدروسة نحو المستقبل، وكل مقومات النجاح متوفرة، فهي تملك رؤية واضحة شرحها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، كما لديها القرار الجريء، وتعتمد مبدأ الثواب والعقاب، ولديها الإمكانات البشرية والمادية، فهي الحصان الرابح الذي سيجر عربة التنمية في المنطقة.