KaRRoM
عضو نشيط
تعدّ الآبار النبوية أحد مكوّنات التاريخ الإنساني المتعدّد الذي تزخر به المدينة المنورة، ويعود تاريخها إلى العهد النبوي وما قبله، ولبعضها ارتباط بسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، إما بشربه عليه الصلاة والسلام منها، أو توضأ أو اغتسل منها، أو بمروره عليه الصلاة والسلام بها، ولبعض تلك الآبار كذلك مواقف تتصل بسيرته أثناء حياته صلى الله عليه وسلم.
وقد عني الباحثون والمؤرخون والجهات الرسمية برصد الآبار القديمة، والتثبّت من مواقعها الموثوقة، رغم تأثر بعضها بالتمدّد العمراني، ودخولها ضمن التوسعات المتلاحقة للمسجد النبوي، والأملاك والمزارع، فيما أولت الدولة ممثلة بالجهات المعنية اهتماماً بالغاً وعناية بالحفاظ على الآبار الأثرية والعناية بها، وإصلاحها، وحفظها من الاندثار، وإعادة إحياء بعضها، بوصفها إرثاً تاريخياً بارزاً، ومعالم إنسانية ملموسة ترتبط بالحياة الاجتماعية لمن سكنوا المدينة النبوية قبل وبعد الهجرة النبوية.
ويصف مدير قطاع التواصل العلمي والثقافي بمركز بحوث ودراسات المدينة المنورة الدكتور محمد بن عبدالهادي الشيباني الآبار النبوية بأنها تمثّل جزءاً مهماً من الحياة الاجتماعية للمدينة المنورة وارتباطها بالعهد النبوي، مبيناً أن المدينة المنورة تحتضن العديد من الآبار التي يجمع الباحثون والمؤرخون على أماكنها، ومن أبرزها بئر بضاعة، وبئر السقيا، وبئر العهن، وبئر البصة أو البوصة الصغرى، وبئر غرس، وبئر حاء أو كما يسمى «بيروحاء»، وبئر رومه، وبئر أريس «الخاتم».
وبيّن الدكتور محمد الشيباني أن بئر «بضاعة» بئر أثرية قديمة تقع في الجهة الشمالية الغربية من الحرم النبوي، وكانت البئر لبني ساعدة، وقال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الماء طهور لا ينجسه شيء» كما في رواية أبي داود، كما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وشرب منها.
وقال أبو داود: سمعتُ قتيبةَ بنَ سعيد قال: سألت قَيِّمَ بئرِ بُضاعةَ عن عُمقها، قال: أكثَرُ ما يكونُ فيها الماءُ إلى العانةِ، قلتُ: فإذا نقصَ؟ قال: دونَ العَورَة.
وقال أبو داود: وقدَّرتُ أنا بئرَ بُضاعةَ برِدائي مَدَدتُه عليها، ثمَّ ذَرَعتُه، فإذا عَرضُها ستَّة أذرُع، وسألتُ الذي فتحَ لي البستانَ فأدخَلَني إليه: هل غُيِّرَ بناؤُها عمَّا كانت عليه؟ قال: لا، ورأيتُ فيها ماءً مُتغيِّر اللَّون، ثم عبر تاريخها انتقلت الى بعض الملاك وأقيم عليها بستاناً.
وأفاد الدكتور محمد الشيباني بأن بئر «بضاعة» دخلت في التوسعة الأخيرة للمسجد النبوي الشريف، وصارت أرضها جزءاً من الساحات الخارجية، ومكانها في القطعة رقم 129 من مخطط المنطقة المركزية، وتبعد عن الركن الشمالي الغربي للسور المحيط بساحات الحرم نحو 60 متراً باتجاه الشمال الغربي على وجه التقريب.
وأضاف الشيباني أن من بين الآبار الأثرية القديمة في المدينة المنورة بئر «السقيا» وهي بئر أثرية قديمة تقع في الجهة الجنوبية الغربية من المسجد النبوي الشريف، جنوب بناية السكة الحديد في أرض تسمى الفلجان، على يسار الخارج من باب العنبرية، وعلى يمين الداخل إلى المدينة، منقورة بالجبل عمقها 14 متراً وقطرها 6 أمتار، وقد كان رسول صلى الله عليه وسلم يستعذب ماءها، وتوضأ منها، وعرض عندها الجيش الذاهب إلى بدر، ثم انتفلت ملكيتها لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
وزاد في وصف بئر «السقيا» أنها كانت مطمورة، فأصلحها بعض فقراء الأعجام، فأطلق عليها في بعض الفترات بئر الأعجام، وأصبحت أخيراً ضمن أراضي أمانة المدينة في سوق الخضار والفاكهة جنوب محطة القطار.
ويصف مدير قطاع التواصل العلمي والثقافي بمركز بحوث ودراسات المدينة المنورة بئر «العهن» بأنها تقع في عالية المدينة، وكانت تسقي بستانا لبني أمية من الأنصار، وهناك منازلهم، ثم انتقلت في إحدى فترات التاريخ لأحد أفراد أسرة العمريين -نسبة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه- وقال المطري عقبه: وبئر «العهن» هذه معروفة بالعوالي، وهي بئر مليحة جداً، منقورة في الجبل.
وقال السمهودي: والذي ظهر بعد التأمل أن بئر «العهن» هي بئر اليسيرة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عليها، وكان اسمها عسرة، فسماها اليسيرة، وأنه توضأ منها، وبصق فيها، وأنها في منازل بني أمية من الأنصار، منقورة في الصخر، وهي مطويّة بالحجارة السوداء المطابقة، والبئر وبستانها اليوم وقف آل البرزنجي، وماؤها عذب حلو، ويحسّن في بستانها النخيل والرمان والعنب والليمون وغير ذلك.
ويستطرد الدكتور محمد الشيباني في سرده لأبرز الآبار الأثرية القديمة في المدينة المنورة، مضيفاً أن منها بئر «البصّة» أو البوصة الصغرى وتقع في الجهة الجنوبية للمسجد النبوي الشريف خارج السور، وهي قريبة من البقيع على طريق العوالي بين النخل عند دار بني خدرة، وعندها أطم مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري، وقد خرج إليها الرسول صلى الله عليه وسلم فغسل رأسه، وصبّ غِسالة رأسه فيها، وإلى جانبها: بئر البصة الصغرى، ويختلف الناس في أيتهما بئر البصة الصغرى، والمرجح أنها القبلية، وعرضها ستة أذرع، وقد جُعل لها درج.
وأضاف أن ابن النجار الذي عاش في القرن السادس الهجري وصف بئر «البصّة» بقوله: وهذه البئر قريبة من البقيع، على طريق المارّ إلى قباء، وهي بين نخل، وقد هدمها السيل وطمرها، وفيها ماء أخضر، ووقفت على قفها وذرعت طولها، فكان أحد عشر ذراعاً منها ذراعان ماءً، وعرضها تسعة أذرع، وهي مبنية بالحجارة، ولون مائُها إذا انفصل منها أبيض، وطعمه حلو إلا أن الأجون غلب عليه، وذكر لي الثقة: أن أهل المدينة كانوا يستقون منها قبل أن يطمرها السيل.
وقال الشيباني إن بئر «البصّة» أصلحت فيما بعد، وأقيمت عليها مزرعة ذات نخيل على يد الشيخ عزيز الدولة ريحان البدير الشهابي، شيخ خدّام الحرم الشريف (ت 697هـ) وأوقفها على الفقراء والمساكين آنذاك.
وزاد أن هذه البئر يسميها البعض «البوصة» وهي باقية حتى الآن داخل بستان قرب باب العوالي، وتعرف باسم بئر البوصة، وموضعها حالياً على يمين المتجه عبر الجسر من العوالي إلى العنبرية، ومجمع وقف البوصة والنشير قائم على بستانها.
وبيّن الدكتور محمد بن عبدالهادي الشيباني أن بئر «غَرس» كذلك تعدّ إحدى الآبار الأثرية القديمة، والغرس الفسيل، أو الشجر الذي يغرس لينبُت، وهي بئر بقباء، على منازل بني النضير، وحولها مقابر بني حنظلة، شرقي مسجد قباء، على نصف ميل إلى جهة الشمال، بين النخيل في المكان المسمى الآن «قربان»، ويمرّ إلى الجنوب منها قريباً الطريق الذي يربط بين طريق قربان والعوالي، وأصبحت الأرض التي فيها البئر الآن في ظل مبنى معهد الهجرة التابع لعبدالباري الشاوي.
وبيّن أن بئر «غرس» كانت لسعد بن خيثمة وهو الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يبيت في منزله أيامه في قباء قبل أن يتحول إلى المدينة، لذلك تعد من آبار قباء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستطيب ماءها ويبارك فيها، وقال لعلي رضي الله عنه حين حضرته الوفاة «إذا متُّ فاغسلني من بئر غرس بسبع قرب».
وقد ورد ذكرها في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ومن ذلك ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قاعدٌ عند بئر غرس «رأيت الليلة كأني جالس على عين من عيون الجنة»، يعني بئر غرس، كما ورد أن رباحاً غلام النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقي من بئر غرس مرة، ومن بئر السقيا مرة.
وقال عنها ابن النجار في القرن السادس الهجري: وهذه البئر بينها وبين مسجد قباء نحو نصف ميل، وهي في وسط الشجر، وقد خربها السيل وطمّها، وفيها ماءٌ أخضر إلا أنه عذب طيّب، وريحه الغالب عليه الأجون، وذرعتها فكان طولها سبعة أذرع شاقة، منها ذراعان ماءً، وعرضها عشرة أذرع.
ثم جٌدّدت هذه البئر بعد السبعمئة، وماؤها يغلب عليه الخضرة، طيب عذب، ثم خربت بعد ذلك، فابتاعها وما حولها الشيخ العلامة خواجا حسين بن الشيخ شهاب الدين أحمد القاواني، وعمرَها وحوّط عليها حديقة، وجعل لها درجة ينزل إليها منها من داخل الحديقة وخارجها، وأنشأ بجانبها مسجداً لطيفاً، ووقّفها، وذلك سنة اثنتين وثمانين وثمانمئة، ويعرف مكانها اليوم وما حولها بالغرس، إلا أنه لا ماء فيها.
ومن الآبار الأثرية في المدينة النبوية بئر «رومة» ويصفها المؤرخ الدكتور محمد الشيباني بأنها بئر قديمة تنسب لرجل من قبيلة غِفار، اسمه رومة، يقال إنه اشتراها من رجل مزني، وتقع في الشمال الغربي من المدينة المنورة - حي الأزهري- قرب مجرى وادي العقيق، وتبعد عن المسجد النبوي حوالي خمسة كيلومترات.
وأضاف: أن البئر كان يملكها في العهد النبوي رجلٌ من غفار، فاحتاج المسلمون إليها، فحضّ رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين على بذلها للمسلمين، فاشتراها عثمان بن عفان رضي الله عنه، وجعلها في سبيل الله، ويروى أنه زاد في حفرها ووسعها، وقد ظلت هذه البئر معلماً تاريخياً عبر العصور الماضية، ويبدو أنها أهملت في بعض الأوقات.
ووصف ابن النجار في القرن السادس الهجري بئر «رومة» فقال: وهذه البئر اليوم بعيدة عن المدينة جداً في براحٍ واسعٍ من الأرض وطيء، وعندها بناء من حجارة خرابٌ، وحولها مزارع وآبار، وأرضها رملة وقد انتقضت خرزتها وأعلامها، إلا أنها بئر مليحة جداً مبنية بالحجارة الموجهة، وذرعتها فكان طولها ثمانية عشر ذراعاً، منها ذراعان ماء وباقيها مطموم بالرمل الذي تسفيه الرياح فيها، وعرضها ثمانية أذرع وماؤها صاف وطعمه حلو إلا أن الأجون غلب عليه.
ثم خربت البئر وجدّدت بعد ذلك، ورفع بنيانها عن الأرض نحو نصف قامة، ونزحت فكثر ماؤها، أحياها كذلك القاضي شهاب الدين أحمد بن محمد بن المحب الطبري، قاضي مكة المشرفة في حدود الخمسين وسبعمئة، والبستان يتبع لأوقاف المسجد النبوي كما بنت فيها قراجاً واسعاً للسيارات ومساكن للموظفين وأنشأت فيها حدائق غاية في الجمال والتنسيق، ومشاتل لشجر الزينة والفواكه والموالح والزهور، وقد أقيم عليها مشتلاً ضخما، وهي تتبع لوزارة الزراعة، وتعرف اليوم ببستان عثمان.
وأضاف الشيباني في حديثه عن بعض الآبار الأثرية القديمة في المدينة المنورة: ومن بينها بئر «حاء» وتقع خارج سور المدينة من الجهة الشمالية في منطقة الباب المجيدي، وكانت ملكاً للصحابي أبي طلحة الأنصاري -رضي الله عنه- فتصدق بها، وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «كان أبو طلحة رضي الله عنه أكثر أنصاري بالمدينة مالا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بئر حاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فتصدق بها أبو طلحة رضي الله عنه» ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجعلها في قرابتك»، فقسمها بين حسان بن ثابت، وأبي بن كعب، ثم اشتراها معاوية، وبنى في بستانها قصر الجديلة.
وزاد: وقد صفها ابن النجار في القرن السادس الهجري فقال: وهذه البئر اليوم وسط حديقة صغيرة جداً وعندها نخلات، ويزرع حولها، وعندها بيتٌ مبنيٌ على علوّ من الأرض، وهي قريبة من سور المدينة، وهي ملكٌ لبعض أهل المدينة من النويريين، وماؤها عذب حلوٌ، وذرعتها فكان طولها عشرة أذرع ونصف ماء، والباقي بنيان، وعرضها ثلاثة أذرع وشبر، وهي مقابلة المسجد، ويخالف شكلها شكل الآبار بالمدينة، إذ هي مربعة الطي، والآبار غيرها مستديرة، وعليها عقدٌ صغير من الطوب الأحمر.
وبيّن الدكتور محمد الشيباني أن بئر «حاء» أو كما تسمى «بيروحاء» دخلت أخيراً في نطاق التوسعة من الجهة الشمالية للمسجد النبوي الشريف، وموضعها معروف داخل الحرم، وهي على بعد عدة أمتار من باب الملك فهد من داخله، وقد وُضع عليها قطعة مستديرة من الرخام الملوّن.
وأضاف أن من ضمن الآبار التاريخية القديمة التي تعود إلى ما قبل العهد النبوي بئر «أريس» أو كما تعرف ببئر «الخاتم» وتقع غرب مسجد قباء من الجهة الغربية، وسمي بـ«الخاتم» لأن خاتم الخلافة سقط فيه من عثمان بن عفان رضي الله عنه في السنة السادسة من خلافته، وبحثوا عنه ثلاثة أيام دون جدوى، وهو الخاتم الذي كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حمله أبو بكر مدة خلافته، وكذلك عمر بن الخطاب مدة خلافته، وانتقل بانتقال الخلافة إلى عثمان رضوان الله عليهم، وقد عدَّ بعض المؤرخين ضياع الخاتم إرهاصاً بالفتنة والأحداث التي وقعت في السنوات التالية، والتي انتهت باستشهاد عثمان رضي الله عنه.
ويذكر بئر «أريس» في الأحاديث الصحيحة، فقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على حافتها ودلّى رجليه فيها، وتوضأ منها، وجلس عنده الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان.
وأبان الدكتور محمد الشيباني أنه لا يُعلم تاريخ حفر بئر «أريس» وطيّها، وكان ذلك قبل عهد النبوة، وقد طويت بالحجارة المنحوتة السوداء المطابقة، وذكر ابن النجار في القرن السدس الهجري أنها تقع مقابلة مسجد قباء، عندها مزارع، ويستقى منها، وماؤها عذب، وذرعتها، فكان طولها أربعة عشر ذراعاً وشبراً، منها ذراعان ونصف ماء، وعرضها خمسة أذرع، وطول قفّها الذي جلس عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه ثلاثة أذرع.
وتابع: والبئر تحت أطم عالٍ خراب من حجارة، ثم لضرورة السقي، رُفع قفّ البئر ثلاثة أذرع، فصار طول البئر على ما ذرعه السيد السمهودي 19 ذراعاً ونصفاً، منها أربعة أذرع ماء. والماء يزيد وينقص حسب قوة مصادره وهطول الأمطار وتوقفها، وفي سنة 714هـ جُعل لهذه البئر درجٌ ينزل إليها من يريد الوضوء والشرب منها، بناه الشيخ صفي الدين بن أبي بكر بن أحمد السلامي، بعد أن اختلّ ما باناه نجم الدين يوسف الرومي وزير الأمير طفيل، وقد دخلت بئر أريس في التوسعة الأخيرة لمسجد قباء وغطتها الساحة الخارجية من الجهة الغربية.
وقد عني الباحثون والمؤرخون والجهات الرسمية برصد الآبار القديمة، والتثبّت من مواقعها الموثوقة، رغم تأثر بعضها بالتمدّد العمراني، ودخولها ضمن التوسعات المتلاحقة للمسجد النبوي، والأملاك والمزارع، فيما أولت الدولة ممثلة بالجهات المعنية اهتماماً بالغاً وعناية بالحفاظ على الآبار الأثرية والعناية بها، وإصلاحها، وحفظها من الاندثار، وإعادة إحياء بعضها، بوصفها إرثاً تاريخياً بارزاً، ومعالم إنسانية ملموسة ترتبط بالحياة الاجتماعية لمن سكنوا المدينة النبوية قبل وبعد الهجرة النبوية.
ويصف مدير قطاع التواصل العلمي والثقافي بمركز بحوث ودراسات المدينة المنورة الدكتور محمد بن عبدالهادي الشيباني الآبار النبوية بأنها تمثّل جزءاً مهماً من الحياة الاجتماعية للمدينة المنورة وارتباطها بالعهد النبوي، مبيناً أن المدينة المنورة تحتضن العديد من الآبار التي يجمع الباحثون والمؤرخون على أماكنها، ومن أبرزها بئر بضاعة، وبئر السقيا، وبئر العهن، وبئر البصة أو البوصة الصغرى، وبئر غرس، وبئر حاء أو كما يسمى «بيروحاء»، وبئر رومه، وبئر أريس «الخاتم».
وبيّن الدكتور محمد الشيباني أن بئر «بضاعة» بئر أثرية قديمة تقع في الجهة الشمالية الغربية من الحرم النبوي، وكانت البئر لبني ساعدة، وقال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الماء طهور لا ينجسه شيء» كما في رواية أبي داود، كما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وشرب منها.
وقال أبو داود: سمعتُ قتيبةَ بنَ سعيد قال: سألت قَيِّمَ بئرِ بُضاعةَ عن عُمقها، قال: أكثَرُ ما يكونُ فيها الماءُ إلى العانةِ، قلتُ: فإذا نقصَ؟ قال: دونَ العَورَة.
وقال أبو داود: وقدَّرتُ أنا بئرَ بُضاعةَ برِدائي مَدَدتُه عليها، ثمَّ ذَرَعتُه، فإذا عَرضُها ستَّة أذرُع، وسألتُ الذي فتحَ لي البستانَ فأدخَلَني إليه: هل غُيِّرَ بناؤُها عمَّا كانت عليه؟ قال: لا، ورأيتُ فيها ماءً مُتغيِّر اللَّون، ثم عبر تاريخها انتقلت الى بعض الملاك وأقيم عليها بستاناً.
وأفاد الدكتور محمد الشيباني بأن بئر «بضاعة» دخلت في التوسعة الأخيرة للمسجد النبوي الشريف، وصارت أرضها جزءاً من الساحات الخارجية، ومكانها في القطعة رقم 129 من مخطط المنطقة المركزية، وتبعد عن الركن الشمالي الغربي للسور المحيط بساحات الحرم نحو 60 متراً باتجاه الشمال الغربي على وجه التقريب.
وأضاف الشيباني أن من بين الآبار الأثرية القديمة في المدينة المنورة بئر «السقيا» وهي بئر أثرية قديمة تقع في الجهة الجنوبية الغربية من المسجد النبوي الشريف، جنوب بناية السكة الحديد في أرض تسمى الفلجان، على يسار الخارج من باب العنبرية، وعلى يمين الداخل إلى المدينة، منقورة بالجبل عمقها 14 متراً وقطرها 6 أمتار، وقد كان رسول صلى الله عليه وسلم يستعذب ماءها، وتوضأ منها، وعرض عندها الجيش الذاهب إلى بدر، ثم انتفلت ملكيتها لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
وزاد في وصف بئر «السقيا» أنها كانت مطمورة، فأصلحها بعض فقراء الأعجام، فأطلق عليها في بعض الفترات بئر الأعجام، وأصبحت أخيراً ضمن أراضي أمانة المدينة في سوق الخضار والفاكهة جنوب محطة القطار.
ويصف مدير قطاع التواصل العلمي والثقافي بمركز بحوث ودراسات المدينة المنورة بئر «العهن» بأنها تقع في عالية المدينة، وكانت تسقي بستانا لبني أمية من الأنصار، وهناك منازلهم، ثم انتقلت في إحدى فترات التاريخ لأحد أفراد أسرة العمريين -نسبة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه- وقال المطري عقبه: وبئر «العهن» هذه معروفة بالعوالي، وهي بئر مليحة جداً، منقورة في الجبل.
وقال السمهودي: والذي ظهر بعد التأمل أن بئر «العهن» هي بئر اليسيرة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عليها، وكان اسمها عسرة، فسماها اليسيرة، وأنه توضأ منها، وبصق فيها، وأنها في منازل بني أمية من الأنصار، منقورة في الصخر، وهي مطويّة بالحجارة السوداء المطابقة، والبئر وبستانها اليوم وقف آل البرزنجي، وماؤها عذب حلو، ويحسّن في بستانها النخيل والرمان والعنب والليمون وغير ذلك.
ويستطرد الدكتور محمد الشيباني في سرده لأبرز الآبار الأثرية القديمة في المدينة المنورة، مضيفاً أن منها بئر «البصّة» أو البوصة الصغرى وتقع في الجهة الجنوبية للمسجد النبوي الشريف خارج السور، وهي قريبة من البقيع على طريق العوالي بين النخل عند دار بني خدرة، وعندها أطم مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري، وقد خرج إليها الرسول صلى الله عليه وسلم فغسل رأسه، وصبّ غِسالة رأسه فيها، وإلى جانبها: بئر البصة الصغرى، ويختلف الناس في أيتهما بئر البصة الصغرى، والمرجح أنها القبلية، وعرضها ستة أذرع، وقد جُعل لها درج.
وأضاف أن ابن النجار الذي عاش في القرن السادس الهجري وصف بئر «البصّة» بقوله: وهذه البئر قريبة من البقيع، على طريق المارّ إلى قباء، وهي بين نخل، وقد هدمها السيل وطمرها، وفيها ماء أخضر، ووقفت على قفها وذرعت طولها، فكان أحد عشر ذراعاً منها ذراعان ماءً، وعرضها تسعة أذرع، وهي مبنية بالحجارة، ولون مائُها إذا انفصل منها أبيض، وطعمه حلو إلا أن الأجون غلب عليه، وذكر لي الثقة: أن أهل المدينة كانوا يستقون منها قبل أن يطمرها السيل.
وقال الشيباني إن بئر «البصّة» أصلحت فيما بعد، وأقيمت عليها مزرعة ذات نخيل على يد الشيخ عزيز الدولة ريحان البدير الشهابي، شيخ خدّام الحرم الشريف (ت 697هـ) وأوقفها على الفقراء والمساكين آنذاك.
وزاد أن هذه البئر يسميها البعض «البوصة» وهي باقية حتى الآن داخل بستان قرب باب العوالي، وتعرف باسم بئر البوصة، وموضعها حالياً على يمين المتجه عبر الجسر من العوالي إلى العنبرية، ومجمع وقف البوصة والنشير قائم على بستانها.
وبيّن الدكتور محمد بن عبدالهادي الشيباني أن بئر «غَرس» كذلك تعدّ إحدى الآبار الأثرية القديمة، والغرس الفسيل، أو الشجر الذي يغرس لينبُت، وهي بئر بقباء، على منازل بني النضير، وحولها مقابر بني حنظلة، شرقي مسجد قباء، على نصف ميل إلى جهة الشمال، بين النخيل في المكان المسمى الآن «قربان»، ويمرّ إلى الجنوب منها قريباً الطريق الذي يربط بين طريق قربان والعوالي، وأصبحت الأرض التي فيها البئر الآن في ظل مبنى معهد الهجرة التابع لعبدالباري الشاوي.
وبيّن أن بئر «غرس» كانت لسعد بن خيثمة وهو الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يبيت في منزله أيامه في قباء قبل أن يتحول إلى المدينة، لذلك تعد من آبار قباء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستطيب ماءها ويبارك فيها، وقال لعلي رضي الله عنه حين حضرته الوفاة «إذا متُّ فاغسلني من بئر غرس بسبع قرب».
وقد ورد ذكرها في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ومن ذلك ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قاعدٌ عند بئر غرس «رأيت الليلة كأني جالس على عين من عيون الجنة»، يعني بئر غرس، كما ورد أن رباحاً غلام النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقي من بئر غرس مرة، ومن بئر السقيا مرة.
وقال عنها ابن النجار في القرن السادس الهجري: وهذه البئر بينها وبين مسجد قباء نحو نصف ميل، وهي في وسط الشجر، وقد خربها السيل وطمّها، وفيها ماءٌ أخضر إلا أنه عذب طيّب، وريحه الغالب عليه الأجون، وذرعتها فكان طولها سبعة أذرع شاقة، منها ذراعان ماءً، وعرضها عشرة أذرع.
ثم جٌدّدت هذه البئر بعد السبعمئة، وماؤها يغلب عليه الخضرة، طيب عذب، ثم خربت بعد ذلك، فابتاعها وما حولها الشيخ العلامة خواجا حسين بن الشيخ شهاب الدين أحمد القاواني، وعمرَها وحوّط عليها حديقة، وجعل لها درجة ينزل إليها منها من داخل الحديقة وخارجها، وأنشأ بجانبها مسجداً لطيفاً، ووقّفها، وذلك سنة اثنتين وثمانين وثمانمئة، ويعرف مكانها اليوم وما حولها بالغرس، إلا أنه لا ماء فيها.
ومن الآبار الأثرية في المدينة النبوية بئر «رومة» ويصفها المؤرخ الدكتور محمد الشيباني بأنها بئر قديمة تنسب لرجل من قبيلة غِفار، اسمه رومة، يقال إنه اشتراها من رجل مزني، وتقع في الشمال الغربي من المدينة المنورة - حي الأزهري- قرب مجرى وادي العقيق، وتبعد عن المسجد النبوي حوالي خمسة كيلومترات.
وأضاف: أن البئر كان يملكها في العهد النبوي رجلٌ من غفار، فاحتاج المسلمون إليها، فحضّ رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين على بذلها للمسلمين، فاشتراها عثمان بن عفان رضي الله عنه، وجعلها في سبيل الله، ويروى أنه زاد في حفرها ووسعها، وقد ظلت هذه البئر معلماً تاريخياً عبر العصور الماضية، ويبدو أنها أهملت في بعض الأوقات.
ووصف ابن النجار في القرن السادس الهجري بئر «رومة» فقال: وهذه البئر اليوم بعيدة عن المدينة جداً في براحٍ واسعٍ من الأرض وطيء، وعندها بناء من حجارة خرابٌ، وحولها مزارع وآبار، وأرضها رملة وقد انتقضت خرزتها وأعلامها، إلا أنها بئر مليحة جداً مبنية بالحجارة الموجهة، وذرعتها فكان طولها ثمانية عشر ذراعاً، منها ذراعان ماء وباقيها مطموم بالرمل الذي تسفيه الرياح فيها، وعرضها ثمانية أذرع وماؤها صاف وطعمه حلو إلا أن الأجون غلب عليه.
ثم خربت البئر وجدّدت بعد ذلك، ورفع بنيانها عن الأرض نحو نصف قامة، ونزحت فكثر ماؤها، أحياها كذلك القاضي شهاب الدين أحمد بن محمد بن المحب الطبري، قاضي مكة المشرفة في حدود الخمسين وسبعمئة، والبستان يتبع لأوقاف المسجد النبوي كما بنت فيها قراجاً واسعاً للسيارات ومساكن للموظفين وأنشأت فيها حدائق غاية في الجمال والتنسيق، ومشاتل لشجر الزينة والفواكه والموالح والزهور، وقد أقيم عليها مشتلاً ضخما، وهي تتبع لوزارة الزراعة، وتعرف اليوم ببستان عثمان.
وأضاف الشيباني في حديثه عن بعض الآبار الأثرية القديمة في المدينة المنورة: ومن بينها بئر «حاء» وتقع خارج سور المدينة من الجهة الشمالية في منطقة الباب المجيدي، وكانت ملكاً للصحابي أبي طلحة الأنصاري -رضي الله عنه- فتصدق بها، وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «كان أبو طلحة رضي الله عنه أكثر أنصاري بالمدينة مالا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بئر حاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فتصدق بها أبو طلحة رضي الله عنه» ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجعلها في قرابتك»، فقسمها بين حسان بن ثابت، وأبي بن كعب، ثم اشتراها معاوية، وبنى في بستانها قصر الجديلة.
وزاد: وقد صفها ابن النجار في القرن السادس الهجري فقال: وهذه البئر اليوم وسط حديقة صغيرة جداً وعندها نخلات، ويزرع حولها، وعندها بيتٌ مبنيٌ على علوّ من الأرض، وهي قريبة من سور المدينة، وهي ملكٌ لبعض أهل المدينة من النويريين، وماؤها عذب حلوٌ، وذرعتها فكان طولها عشرة أذرع ونصف ماء، والباقي بنيان، وعرضها ثلاثة أذرع وشبر، وهي مقابلة المسجد، ويخالف شكلها شكل الآبار بالمدينة، إذ هي مربعة الطي، والآبار غيرها مستديرة، وعليها عقدٌ صغير من الطوب الأحمر.
وبيّن الدكتور محمد الشيباني أن بئر «حاء» أو كما تسمى «بيروحاء» دخلت أخيراً في نطاق التوسعة من الجهة الشمالية للمسجد النبوي الشريف، وموضعها معروف داخل الحرم، وهي على بعد عدة أمتار من باب الملك فهد من داخله، وقد وُضع عليها قطعة مستديرة من الرخام الملوّن.
وأضاف أن من ضمن الآبار التاريخية القديمة التي تعود إلى ما قبل العهد النبوي بئر «أريس» أو كما تعرف ببئر «الخاتم» وتقع غرب مسجد قباء من الجهة الغربية، وسمي بـ«الخاتم» لأن خاتم الخلافة سقط فيه من عثمان بن عفان رضي الله عنه في السنة السادسة من خلافته، وبحثوا عنه ثلاثة أيام دون جدوى، وهو الخاتم الذي كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حمله أبو بكر مدة خلافته، وكذلك عمر بن الخطاب مدة خلافته، وانتقل بانتقال الخلافة إلى عثمان رضوان الله عليهم، وقد عدَّ بعض المؤرخين ضياع الخاتم إرهاصاً بالفتنة والأحداث التي وقعت في السنوات التالية، والتي انتهت باستشهاد عثمان رضي الله عنه.
ويذكر بئر «أريس» في الأحاديث الصحيحة، فقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على حافتها ودلّى رجليه فيها، وتوضأ منها، وجلس عنده الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان.
وأبان الدكتور محمد الشيباني أنه لا يُعلم تاريخ حفر بئر «أريس» وطيّها، وكان ذلك قبل عهد النبوة، وقد طويت بالحجارة المنحوتة السوداء المطابقة، وذكر ابن النجار في القرن السدس الهجري أنها تقع مقابلة مسجد قباء، عندها مزارع، ويستقى منها، وماؤها عذب، وذرعتها، فكان طولها أربعة عشر ذراعاً وشبراً، منها ذراعان ونصف ماء، وعرضها خمسة أذرع، وطول قفّها الذي جلس عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه ثلاثة أذرع.
وتابع: والبئر تحت أطم عالٍ خراب من حجارة، ثم لضرورة السقي، رُفع قفّ البئر ثلاثة أذرع، فصار طول البئر على ما ذرعه السيد السمهودي 19 ذراعاً ونصفاً، منها أربعة أذرع ماء. والماء يزيد وينقص حسب قوة مصادره وهطول الأمطار وتوقفها، وفي سنة 714هـ جُعل لهذه البئر درجٌ ينزل إليها من يريد الوضوء والشرب منها، بناه الشيخ صفي الدين بن أبي بكر بن أحمد السلامي، بعد أن اختلّ ما باناه نجم الدين يوسف الرومي وزير الأمير طفيل، وقد دخلت بئر أريس في التوسعة الأخيرة لمسجد قباء وغطتها الساحة الخارجية من الجهة الغربية.