• عزيزي العضو

    إذا كنت تواجه مشكلة في تسجيل الدخول الى عضويتك فضلا قم بطلب تغيير كلمة المرور عبر (نسيت كلمة المرور) أو التواصل معنا عبر أيقونة التواصل في الأسفل او البريد [email protected] او من خلال المحادثات على الواتساب عبر الرابط التالي https://wa.link/bluuun او مسح الباركود في الصوره

    إدارة الموقع

الثعابيني

الاعضاء الذين تم تكريمهم لهذا الشهر

امير بكلمتي

مشرف قسم
46.gif


الفصل الأول
في قاعة للأفاعي

ابتسم هاني لإطراء ضيفه، ثم التفت إليه مجاملاً، وعصاه ما تزال تداعب الأفعى المنتصبة أمامه، وقال:
“أشكرك يا صديقي الأزرق، أشكرك.. إنها ليس هوايتي المفضلة بصفتي رئيس دولة وحسب، بل هي إرث عزيز، ورثته عن آبائي وأجدادي.. ولو أنها انحصرت بشخصي، لبدت نشازاً في هذا العصر المتمدن.. ألا تعتقد ذلك؟”.
قال الرئيس هاني كلامه هذا، وتابع مداعبته للأفعى الضخمة بعصاه الطويلة الملساء، ثم أردف بهدوء: ولعل هذا يكشف لك سر تسمية عائلتنا بـ”الثعابيني”.
قال السفير: العفو يا سيادة الرئيس! أنا لم أقصد سوى التعبير عن الحقيقة حين قلت: “إنها أطرف هواية يمارسها رئيس دولة”، أو قل: إني أعبر عن الحقيقة التي أعرفها.. وربما كان هنالك حقائق كثيرة لا أعرفها في هذا العالم الواسع…
قال الرئيس دون أن يلتفت إلى محدثه: ماذا تقصد بالضبط؟
قال السفير: أعني أنه ربما كان هناك رؤساء دول يمارسون هوايات أطرف من هوايتك هذه بكثير، إلا أنني لا أعلم ذلك.
التفت الرئيس مبتسماً وقال: أنت سفير لأعظم دولة في العالم ومضى عليك عشرات السنين في السلك الخارجي لدولتك، عرفت فيها أكثر بلاد الدنيا، وتقول مثل هذا الكلام؟!.
السفير مبتسماً: قد أؤيدك بأنني يجب أن أعلم أكثر هوايات الرؤساء والملوك في هذا العالم بشرط.
الرئيس مبتسماً: وما هو؟
السفير: أن تضمن لي بقاء كل الحكام الحاليين على كراسي الحكم مدة سنة واحدة فقط.
ضحك الاثنان.. وظل الرئيس يداعب الأفعى، بينما قال السفير الأمريكي جاداً: وما دمنا قد وصلنا إلى هذا الحد سيادة الرئيس، فاسمح لي أن أحدثك عن سبب زيارتي المفاجئة هذه، فالساعة الحادية عشرة والنصف ليلاً كما تلاحظ.. و..
قاطعه الرئيس قائلاً: ليست زيارتك مفاجئة، بل تمت بناء على موعد ضربناه قبل ساعتين بناء على طلبك، أليس كذلك؟
السفير: بلى، أقصد أن طلب الزيارة ذاته كان مفاجئاً.. ولو لم يكن الأمر ضرورياً لما حملتكم عناء استقبالي في هذا الوقت فوق عنائكم المضني في إدارة شؤون الدولة.
وضع الرئيس عصاه جانباً، والتفت إلى محدثه بابتسامة صفراء تخفي توجساً وقلقاً، وقال بهدوء مفتعل: خير إن شاء الله.. ما وراءك يا فيليب الأزرق!؟
قال السفير: أتحبون أن نتحدث في هذا المكان؟
قال الرئيس: لا بأس في ذلك، فليس بيننا كما ترى إلا هذه الأفاعي الجميلة، وهي من النوع الذي يكتم الأسرار.. بل إنني اخترت غرفة الأفاعي خصيصاً لاستقبال حضرتك، لتأنس بمناظرها البهيجة…
قال السفير متضاحكاً: إذن كان الله في عونهم.
قال الرئيس مستفهماً: في عون من؟
السفير: في عون أولئك المتآمرين.
الرئيس باستغراب: “المتآمرين”!؟ من هم؟ وعلام يتآمرون؟
قال السفير متضاحكاً: لا تخش يا سيادة الرئيس.. وكن مطمئناً تماماً.. فما دمت تبتهج بمنظر الأفاعي وهي تفح وتتلمظ بسمومها القاتلة، فلا يخشى عليك من أية مؤامرة..
تضاحك الاثنان، وتابع الرئيس مستفهماً بجدية:
ولكن لم تقل لي شيئاً عن المؤامرة والمتآمرين.. وأظن هذا هو سبب زيارتك المفاجئة أليس كذلك؟
السفير: بلى.. إلا أن الأمر هين، والخطر بعيد.
الرئيس: اشرح لي القصة بكاملها حتى أفهم منك ما تقول.
السفير: أبلغتنا أجهزة استخباراتنا بأن هناك مؤامرة داخلية تحاك ضد سيادتكم شخصياً، وضد نظام حكمكم بشكل عام..
الرئيس: ومن مدبرها؟ ومن المشاركون فيها؟ وما توقيتها؟ وما كيفيتها؟؟
السفير أرجو أن تهدئوا أعصاب سيادتكم فالأمر أهون من أن تهتموا له كل هذا الاهتمام.
الرئيس منفعلاً: يا رجل.. مؤامرة ضد نظام حكمي، ولا أهتم بها، فبم أهتم إذن؟ أتريد اللعب بأعصابي؟
السفير مبتسماً: أنتم أكبر من هذا المستوى يا سيادة الرئيس.. ثم إن مصلحة بلدينا مشتركة كما تعلمون، لذا فمن واجبنا جميعاً التعاون على سحق أية مؤامرة ضد شخصكم الكريم أو نظام حكمكم الميمون..
الرئيس منفعلاً: ومع ذلك لم تخبرني بكلمة واحدة حتى الآن عن طبيعة المؤامرة وأشخاص المتآمرين.. بل تتحدث بهدوء، كما لو كنت تتكلم عن تاريخ بابل وآشور..
ابتسم السفير وهو ينظر في وجه الرئيس، ثم أخرج علبة سجائره وقدم واحدة للرئيس، وأشعلها له بقداحة أنيقة، وأشعل واحدة لنفسه، وبدأ كل منهما يدخن من خلال جوه النفسي الخاص.
الرئيس يدخن وينظر إلى صاحبه نظرة مملوءة بالقلق والغيظ والهيبة، نظرة من يشعر بأن مصيره ومصير حكمة معلق بكلمة يقولها رجل قوي يجلس أمامه بثقة وسكينة.. فلا هو يجرؤ على الإمساك به وإلقائه بين أنياب الثعابين، كما يفعل بسائر خصومه، ولا كبرياء السلطة تسمح له بالتذلل والاستعطاف، لمعرفة الذئاب التي تصر بأسنانها لالتهامه.. وربما داخله إحساس بأن السفير يحاول فعلاً أن يستثيره أو يختبر قوة أعصابه في الملمات.. إلا أنه لم يخطر في باله لحظة واحدة أن السفير يكذب عليه، أو يلفق له حديثاً عن مؤامرة موهومة، ليبتزه سياسياً أو اقتصادياً، أو غير ذلك.. فالمؤامرة حقيقية إذن..
أما السفير، فقد سبح في سحابة من دخان سيجارته، وهو يتأمل وجه الرئيس تارة، وينظر إلى الأفاعي تارة أخرى.. إنه فعلاً يختبر قوة أعصاب الرئيس، بل يختبر كل ذرة في كيانه، “إنها فرصة ذهبية لك يا فيليب الأزرق.. مضى عليك الآن خمسة وثلاثون عاماً في العمل الديبلوماسي، وخبرت من الرجال ما خبرت.. في إفريقيا، وآسيا، وأوربا، وأمريكا اللاتينية.. فاغتنم هذه الفرصة، وأضف إلى رصيدك الفلسفي الخاص، وإلى رصيدك الدبلوماسي بصفتك رجل دولة.. أضف هذه التجربة الجديدة.. تعرف على الرجل.. اسبر أعماقه.. افحص كل ذرة في كيانه.. امتحن كل شيء فيه، امتحن فيه سيادة الرئيس هاني بن غالب الثعابيني، رئيس أغنى دولة في إفريقيا، وامتحن فيه زعيم قبيلة الصنابيج أقوى قبيلة في دولته، وتعرف إلى الدماغ العسكري الذي خطط لاستلام السلطة قبل سبع سنوات وعصف بخصومه عصف الريح بالهشيم..
إن رئيس الأركان السابق هذا، الذي يشبه فحم بلاده سواداً، وغابات بلاده غموضاً، وأفاعي قصره تحفزاً وخطورة.. هذا الطويل النحيل المتلمظ بدماء خصومه أبداً.. هذا الضابط الإفريقي المسلم، تجربة فريدة لك، بل كنز من التجارب.. يفيدك الآن، ويفيدك مستقبلاً، ويفيد أمريكا وسياسة أمريكا في أفريقية برمتها، إنه أنموذج حي، بل إنه نمط إفريقي ممتاز ومتكرر وعام.. إنه ظاهرة سياسية.. بل ظاهرة فنية للدبلوماسي المحترف الذي يحب أن يخدم أمريكا.. إنه الآن، الآن بالذات، صيد سمين.. فلا تفلته من بين يديك.. يا فيليب.. يا ابن الأزرق. ثم لا تنس أن هذا من صميم عملك الدبلوماسي.. صحيح أنك حين أتيت لإخبار الرجل بالمؤامرة المبيتة ضده لم يخطر في بالك أن تمتحنه، إلا أن فرصة الاختبار قد جاءتك عرضاً، فمن العبث أن تضيعها.. إنك بكشف المؤامرة له، تضرب عصافير عدة بحجر واحد، وعليك أن تضيف هذا العصفور الجديد الذي لم تكن تسعى إليه.. ولكن، حذار أن يزيد الأمر عن حده فيصبح لعباً بالنار..”.
كانت الطاولة التي تفصل بين الرجلين منخفضة، وعليها زجاجات ماء، وأكواب فارغة، وكل منهما يجلس على كرسي وثير يكاد يغوص فيه..
صب السفير كأساً من الماء وقدمها إلى الرئيس مبتسماً، وهو يقول: هل يحب سيادة الرئيس أن يشرب ماء؟
انتبه الرئيس من شروده، وقال: أشكرك.. بل أرجو المعذرة لأنا لم نقدم لك شيئاً من الشراب.. فأخبرنا ماذا تحب أن تشرب؟
ضحك السفير، وقال: كأساً من الماء.
ابتسم الرئيس وقال: ولكنكم في بلادكم لم تتعودوا على هذا.
بادله السفير الابتسام قائلاً: ولكننا الآن في بلادكم.
قال الرئيس: مضى عليك سنتان في بلادنا، وأظنك قد اكتشفت أن بلادنا لا تقل كرماً عن بلادكم.
السفير: بل لا أجامل إذا قلت: إنها أكرم من بلادنا بكثير.. ولكن…
الرئيس: ولكن ماذا؟
السفير: إن ما نشربه في بلادنا بشكل عادي، تشربونه بشكل استثنائي وعلى حذر.
الرئيس: تقصد الخمر!؟
السفير: أجل.
الرئيس: صدقت، إن أغلبية السكان عندنا من المسلمين، وهي محرمة في الإسلام، لذا تراني وكبار رجال الدولة نشربها في المناسبات فقط، ونحرص على ألا يطلع الرأي العام على ذلك.
السفير: هذا من حسن السياسة، فمراعاة مشاعر الجماهير ضرورة سياسية.
الرئيس: فهل تحب الآن أن تحتسي كأساً من الخمر؟
السفير: أما الآن فلا..
الرئيس: وما المانع؟
السفير: لا أرى الوقت ملائماً، ولا أجد لدي ميلاً لذلك.
الرئيس: لك ما تحب.. فهل تأذن لي بمداعبة سخبولة؟
السفير باستغراب: ومن سخبولة هذه؟
قال الرئيس باسماً: تلك الرقطاء الممشوقة القوام، وأشار بيده نحو إحدى الأفاعي.
قال السفير: مثلي لا يأذن لمثلك، تفضل.
أخذ الرئيس عصاه الطويلة، وبدأ يحرك بها جسد سخبولة وهي تتلوى حيناً، وترفع رأسها وبعض قامتها حيناً آخر، والسفير ينظر إليه وإليها باهتمام..
الموقف الآن غير عادي البتة..
السفير حتى الآن لم يؤد المهمة التي جاء من أجلها، حرصاً على سبر أغوار الرئيس، والرئيس يتجاهل بعض أصول الإتكيت والضيافة فينصرف عن ضيفه إلى ممارسة هوايته في ترويض الأفاعي.. أما المؤامرة، فكأن حولها صراعاً خفياً يدور بينهما في أعماق نفسيهما..
لقد أحس السفير بهذا.. أحس بأن الرئيس يحاول أن يبدو غير مكترث بالمؤامرة، وغير حريص، بعدما ألح في البداية ولم يسمع جواباً شافياً، على تكرار إلحاحه، وبمعنى آخر: لقد أحس السفير بأن مهمته قد باخت في ظاهر الأمر، أو هي على وشك أن تبوخ.. والذنب في ذلك ذنبه.. لقد حاول أن يعتدي على الرئيس.. وأي عدوان أسوأ من هذا: يخبره عن مؤامرة ضده، فيستثيره، ثم يتركه دون ان يعلمه بشيء عن المؤامرة.. لقد أهانه، فليدفع ثمن تصرفه.. أو لا بد من مخرج سريق ولبق.. إن حليف بلاده هذا إفريقي عنيد.
قال السفير بلباقة: هل تأذنون لي يا سيادة الرئيس.
التفت إليه الرئيس متسائلاً: بالانصراف؟
السفير: إذا أحببتم أن تصرفوني انصرفت، إلا أني أستأذنكم بشيء آخر الآن.
الرئيس: تفضل، قل ما تريد.
السفير: أحب أن أدرس معكم موضوع المؤامرة.
الرئيس بجفاف حاول أن يلطفه: وماذا تدرس فيها؟
السفير: لقد كلفتني حكومتي بأن أدرس الموضوع مع سيادتكم.
الرئيس دون اكتراث: وكلفتك بألا تذكر لي أي شيء عن المتآمرين؟
السفير: يسعدني سيادة الرئيس، بل يشرفني أن أكون عنصراً من عناصر أمنكم، أو مخبراً من مخبريكم السريين، فأرصد لكم حركات أعدائكم في بلادكم، وأكتب لكم تقارير يومية عن كل من يذكركم بسوء من أبناء شعبكم.. إلا أن حكومتي لم تكلفني بهذه المهمة الرفيعة حتى الآن، فأستميحكم العذر، لعدم إفشائي حتى الآن، أسماء أعدائكم وخصومكم السياسيين..
انتبه الرئيس إلى هذا المعنى الدقيق، وأدرك أنه أخطأ بإلحاحه على معرفة أسماء المتآمرين، وأن السفير ليس مخبراً سرياً لدى أجهزة مخابراته.. إلا أن اللغة المتواضعة التي ساق بها السفير معانيه الأخيرة، تحمل نوعاً من السخرية الخفية.. “سفير أمريكا يتشرف ويسعد بأن يكون مخبراً لدى أجهزة مخابراتي..! لا شك في أنه يسخر، إلا أنه كان جاداً فيما يقول.. أية دبلوماسية عجيبة هذه.. وأية عوالم تفصل بين دنيانا نحن الإفريقيين، ودنيا هؤلاء الناس!”.
عادت إلى الرئيس ابتسامة الود، ووضع عصا الترويض جانباً، والتفت بكليته إلى السفير، وشبك يديه فوق الطاولة قائلاً: أرجو عدم المؤاخذة، تفضل.. تحدث بما شئت.
كان تعليق السفير الأخير مخرجاً لبقاً حقاً من الجو الفاتر الذي ساد اللقاء، ومدخلاً لبقاً إلى جو جديد يصول فيه ويجول.. يتسلل بغموض إلى نفسية الإفريقي المحنك، فيمسك بها من أطرافها، يهيج طرفاً ويخدر آخر، ويعبث بثالث ويناغي رابعاً، يدغدغ فيها طموحاً غزيزياً قوياً، ويستثير خوفاً غزيزياً أقوى.. ويخدش حقداً قديماً متجمداً، ويجسد وهماً طفولياً غامضاً.. إن نفسية الثعابيني الآن بكل ما فيها من عجائب ومجهولات ومتناقضات، مسرح حقيقي ممتع، لثعبان شيطاني عريق، يرتدي ثياباً دبلوماسية أنيقة..
كانت الشفاه الزنجية الضخمة، تنفرج حيناً عن ابتسامة فاترة صفراء، تشد الانتباه إلى كتل ثلجية صغيرة متجمدة، متراصة بإحكام، مرصوفة في بوابة فريدة لكهف بركاني مسحور.. ثم تنطبق الكتل الثلجية بعنف، كما لو كانت مقصات فولاذية، تطبق على كتلة هلامية هشة تجرأت على التسلل إلى أعماق الكهف الرهيب..
لم تكن كلمات السفير هي الكتل هي الكتل الهشة التي يقضمها الزنجي المعروق الصلد، بل كانت الأزرار السحرية التي تحرك بوابة الكهف، بطريقة بارعة يتحكم فيها السفير وحده، مستخدماً كل ما فجرته في جامعات أمريكا من طاقات عقلية، وكل ما أكسبته إياه تجارب خمسة وثلاثين عاماً، في معتركات الأحداق والألباب، وساحات الصراع بين الألسنة والأمزجة والأدمغة والألوان..
الفصل الثاني
ساعات قلقة

لم يستطع أن ينام.. كان يتقلب على فراشه كما يتقلب ثعبان من ثعابينه الضخمة، تحركه عصي شتى، طويلة وقصيرة، خشنة وملساء، رفيعة وغليظة.. كل كلمة من كلمات الأزرق كانت عصا من نوع ما، تعبث بطرف من أطراف دماغه المرهق، أو تخز جانباً من جوانب نفسه المتوترة المتحفزة.. لقد غادره الأزرق الساعة الثانية صباحاً، وها هي الساعة الآن تقترب من الثالثة.. يجب أن ينام، ولكن كيف؟ لقد نصحه صديقه الأزرق بالنوم لترتاح أعصابه.. ولكن كيف؟ إنه يفكر بكل كلمة قالها صديقه.. بكل معنى ظاهر وخفي.. بكل علاقة بينه وبين رجال دولته، بكل وجه من وجوه المتآمرين، أو الذين يجب أن يكونوا متآمرين حكماً.. لقد أراحه الأزرق قليلاً إذ وضع يده بغموض على بعض أطراف المفاتيح، مفاتيح المؤامرة.. ورسم له بعض خطوط الوجوه الغادرة التي تتربص به، وتتوثب للانقضاض عليه.. إلا أن صديقه لم يسلمه مفتاحاً واحداً تسليماً حقيقياً، ولم يرسم له وجهاً واحداً بتفاصيل دقيقة واضحة.. وهذا من حق السفير، بل ربما كان من واجبه.. إنه ليس مخبراً سرياً، بل سفير دولة عظمى.. ولكن.. ولكنه صديق.. صديق شخصي.. يمثل دولة حليفة، ذات مصلحة حقيقية في إفريقيا كلها.. فلم نصحه بالنوم والذئاب الضارية تحيط بقصره؟ لم نصحه بألا يستدعي أحداً من رجال حكومته في هذه الليلة؟ وهل السبب الحقيقي هو ما ذكره حين قال له: “إن أعداءك في الداخل والخارج يرصدون كل حركة تصدر عنك أو عن أحد رجال دولتك، فلا تقم بأي تصرف ظاهر يمكن أن يستغلوه في إنجاح مؤامرتهم الخبيثة..”؟ أهذا هو السبب الحقيقي، أم أن هنالك أسباباً أخرى آثر الاحتفاظ بها حتى يحن الوقت المناسب؟! ثم متى يحين هذا الوقت المناسب؟ إن المؤامرة في بدايتها كما قال، وسوف تستغرق دراستها والإعداد لها ثلاثة أشهر في أقل تقدير، حتى تصبح جاهزة للتنفيذ، وعندئذ نقبض على المجرمين الخونة بالجرم المشهود.. ولكن.. من يدري أن هذا الكلام دقيق تماماً؟ ألا يمكن أن تكون أجهزة استخبارات أمريكا غفلت عن بعض عناصر القضية؟ أولا يمكن أن يكون بعض الخونة الآن قريباً من قصري، يرصد حركة الحرس؟ بل ألا يمكن أن يكون بعضهم من رجال حكومتي المقربين.. ألم أطح أنا نفسي برئيس دولتي حين كنت رئيساً لأركان الجيش؟ صحيح أن رئيس أركان جيشي الآن هو من قبيلتي، وأن رئيس الفرقة التي تحرس قصري هو من أقارب زوجتي، إلا أن التجارب علمتني ألا أثق بإخلاص أحد كل الثقة، وألا أطمئن إلى يقظة رجالي كل الاطمئنان..
هه.. النوم! ينصحني ابن الأزرق بالنوم.. أنا مروض الأفاعي أنام، والأفاعي البشرية تحيط بي لتغمد أنيابها السامة في قلبي، وتجلس على كرسي حكمي، ثم تفتك بأهلي وتشرد أعواني وحاشيتي في المنافي والسجون والقبور!؟
هه.. كيف تفكر يا ابن الأزرق؟ أأنت في واشنطن أم شيكاغو أم نيويورك.. إنك هنا يا عزيزي في إفريقيا.. قارة الأدغال والأفاعي والفهود والعقارب والثعالب والذئاب.. أم لعلك.. مستحيل.. مستحيل.. وهل ستجد بلادكم أخلص مني لخدمة مصالحها في بلادي.. مستحيل.. مستحيل..”.
ارتفع صوته وهو يصرخ: مستحيل.. مستحيل.. فانتبهت زوجته التي كانت نائمة بجواره، وهمست بذعر: ما بالك يا عزيزي.. ما هذا المستحيل الذي تتحدث عنه..؟ أأنت تحلم..؟
انتبه إلى نفسه، واعتذر لزوجته بأنه كان في حلم.. ثم قام متجهاً إلى المغاسل، ورش على وجهه ماء بارداً، وجلس على أريكة وثيرة بعيدة عن السرير قليلاً.. أسند ظهره إلى الأريكة.. وشبك أصابع يديه ووضعها خلف رأسه، فأسند مؤخر رأسه إليها.. ثم بدأ يصغي إلى حركة الأفكار وهي تصطرع داخل دماغه بشكل عشوائي مرهق..
زوجته ظلت مستسلمة للنوم.. لم تجد في حركة زوجها ما يلفت الانتباه.. ثم إن هذا التصرف ليس الأول من نوعه، فقد ألفته منذ زمن غير قليل..
أشد ما يرهقه الآن أنه لا يستطيع الاتصال بأحد من أعوانه، حتى رئيس حرسه الخاص.. إنه يتمسك بوصية الأزرق.. ثم من يدري.. لعل رئيس حرسه ضالع في الأمر.. بل لعله يتأهب الآن لتحين الفرصة للتسلل في الظلام إلى داخل القصر.. إن الأنوار الخافتة داخل غرفة نومه تيسر للداخل كشف مكانه..
قام فأطفأ النور الخافت، واتجه إلى إحدى النوافذ المطلة على المدينة.. أزاح طرف الستارة الحريرية، ونظر من خلف زجاج النافذة إلى أنوار المدينة..
أحس أنه بحاجة إلى الهواء، مد يده ليفتح زجاج النافذة، ثم عدل عن الفكرة، وظل مكتفياً بالنظر خلسة من وراء الزجاج المغلق..
أحس بحركة من خلفه فصاح بذعر: من هذا؟
أجابته زوجته بهدوء قلق: “إنك متعب الليلة يا عزيزي..”.
كانت زوجته قد قامت متجهة إلى المغاسل لبعض شأنها، فنبهته حركة حذائها، فصاح ذلك الصوت المذعور.. ثم اعتذر لزوجته بأنه مرهق من كثرة مشكلات البلاد.
أنوار المآذن بدأت تتلألأ، وأصوات المؤذنين بدأت تفد إليه من بعيد.. لم يخطر في بال أنه مدعو إلى صلاة الفجر.. إنه يصلي، لكن لا علاقة له بالفجر وصلاة الفجر.. إن صلاة الفجر غير داخلة في سجل أعماله السياسية اليومية.. صلاة الجمعة وصلاة العيدين من الصلوات الواجبة عليه، لأنها تحمل طابعاً سياسياً جماهرياً إعلامياً، فهي من صميم أعماله بصفته رئيس دولة مسلمة.. أما صلاة الفجر فليس ملزماً بأن يصليها في المسجد، وبالتالي فلن تطلع عليها الجماهير وأجهزة الإعلام حين يصليها داخل القصر.. لذا، فقد نسيها منذ زمن بعيد..
أحس بالراحة حين سمع أقرب مئذنة إليه تختتم أذانها.. لقد طلع النهار، وبدأت حركة المصلين إلى المساجد، وحركة المسافرين إلى السفر.. وليس في الدنيا عاقل يقوم بحركة انقلاب في النهار.. لقد مرت الساعات الحاسمة بأمان، ساعات القلق المضني انتهت الآن.. وستكون ساعات النهار مجال عمل خصب، يبحث فيه عن الحقائق تحت ضوء الشمس..
عاد إلى سريره، فاستلقى، وراح في نوم عميق..
الفصل الثالث
المنزل البحري

كانت الأمواج الهادئة تتكسر على جدران المنزل البحري، الذي اعتاد الرئيس أن يستجم فيه بين حين وآخر.. وكان الرجلان يستمتعان بمنظر الشمس وهي تسكب أشعتها الذهبية فوق البحر، ونسيمات الصباح تداعب وجنات الأمواج الطفولية، فتثير فيها رشاقة بديعة، وتدفعها إلى التسابق نحو الشاطئ حيث ترمق الرجلين الساهمين بهدوء، وتعود فرحة إلى البحر لتندفع نحو الشاطئ من جديد..
لقد ظن كل منهما أن الأمواج الطفلية تحاول أن تقول شيئاً ما، أن تكشف سراً ما، سراً تتلامح ظلاله وراء رقصات التحية، التي تؤديها هذه الموجات البريئة، كأنها حفنة من بنات الرياض خرجت لتوها من قاعة الدرس، وانسابت في فوضى منظمة، متدافعة بفضول لتحيي الضيفين العزيزين.. وتقول شيئاً ما.. لكن لها لغتها الخاصة التي لا يفهم منها الساسة إلا معاني المرافئ والأساطيل والأقاليم البحرية والاقتصاد والجغرافيا..
قال الرئيس مداعباً صاحبه: هل فهمت شيئاً؟
زيدان: وهل تحدثتم سيادتكم عن شيء ما؟
الرئيس ضاحكاً بهدوء: ظننتك كنت تصغي إلى همس هذه الموجات الصغيرة..
زيدان: لم يخب ظنكم يا سيادة الرئيس، إلا أنني –والحق يقال- لم أحاول أن أفهم شيئاً من ثرثرات هذه الأمواج البريئة..
الرئيس: ولم لا؟
زيدان: لأن محاولتي محكوم عليها بالإخفاق سلفاً.. وأنا لا لأحب التجارب المخفقة، أو التي يغلب على ظني أن مصيرها الإخفاق.. كما أنني لا أملك روح الشاعر التي تملكونها سيادتكم لأمزج نفسي في هذا الجمال، وأصبح جزءاً منه، فأدرك ما يقول كل عنصر من عناصره..
ضحك الرئيس ضحكاً خفيفاً تنسرب فيه آثار بحة بسيطة، وقال بصوت رقيق: تعجبني براعتك في الحديث يا زيدان، وما أظنني غبطت نفسي يوماً على شيء ما، كما أغبطها على اختياري إياك مستشاراً لي.. ولا أقول مستشاراً سياسياً وحسب، بل مستشاراً في كل شأن من شؤوني الخاصة والعامة.. فأنت أخ لي قبل أن تكون موظفاً عندي.. هذا ما أثبتته لي الأيام، وأرجو أن تثبت لك يوماً ما صدق مشاعري نحوك، لتدرك أنها ليس مجرد مجاملات من النوع العادي الذي ألفته ألسنة الساسة، وبدأت تلوكه بحساب وبغير حساب.
زيدان: هذا من كرم سيادتكم يا سيادة الرئيس، وهو يعبر عن نبل طويتكم في كل حال، وأرجو أن أكون عند حسن ظنكم وكبير ثقتكم بي.
صمت الرجلان، وعادا إلى التأمل في أمواج البحر وأشعة الشمس ونسيمات الصباح المنعشة.. كانا يرتشفان القهوة بهدوء، إلا أن كلاً منهما كان يسرح في بيداء بعيداً عن الآخر.. وكان كل منهما في بيدائه يرعى قطيعاً غير متجانس من الأفكار، بين غزلان وأبقار وجواميس وفيلة، يطرد هذه، وتطرده تلك، يزجر واحدة فتنطحه الأخرى.. والمحصلة النهائية شيء يسير من التكهنات الغامضة، المستندة إلى استنتاجات غير دقيقة، مبنية على استقراء ناقص، تختلط فيه الحقائق بالأوهام..
أما الرئيس فعالمه الفكري في هذه الساعة هو عالم “المؤامرة”، يبدأ منها، ويسبح في دوامتها، ثم لا ينتهي به المطاف إلا بين لججها المتلاطمة.. وتنور القلق الذي شوى دماغه بالأمس، ما يزال يلفحه بشيء من الحرارة، يلطف من حدتها جمال الطبيعة، والأنس بصاحبه المخلص، ومستشاره الحصيف زيدان الفاتك..
من أية نقطة يبدأ الحديث مع زيدان؟ أيخبره مباشرة بالأمر ويأخذ رأيه فيه..؟ أم يلمح له تلميحاً حول بعض الأمور التي ذكرها له السفير..؟ أم يسأله عن رأيه في بعض الشخصيات الكبيرة في الدولة، ممن يحتمل أن يكونوا ضالعين في المؤامرة.. أم يسأله عن موقف الدولتين العظميين حول بعض القضايا الإفريقية، حتى يصل بشكل غير متعمد إلى معرفة رأيه في موقف أمريكا من النظام الحالي في بلاده..؟ أم يسأله عن رأيه الشخصي في فيليب الأزرق وطريقة معالجته للأمور..؟
إنه يثق بزيدان الفاتك، يثق بإخلاصه له، ويثق بحنكته السياسية وحسن تحليله للأمور، ولكن إلى أي حد؟ عند هذه النقطة توقف، واستل خيطاً من خيوط أفكاره المتشابكة في ساحة الدماغ، وتأمله جيداً، إنه المحور الذي تدور حوله شبكة من التساؤلات المتواثبة المتصايحة في أعماقه: كل كلمة يقولها السياسي لها ثمن، ولها مغزى، ولها إيحاء، ولها نتيجة.. ولا بد من حساب هذا كله، وإلا كان كالشاة التي تبحث عن حتفها بظلفها “آه ما أسعد رعاة الأبقار الذين لا يرهقون أنفسهم بتكلف البحث عن الكلمات التي لا تذبحهم”..
ابتسم بتكلف، وقال للرجل الأسمر الجالس بجواره: لم تقل لي يا دكتور زيدان، أي مدرسيك الأمريكان أثر في نفسك أكثر من غيره!؟
ارتبك زيدان لهذا السؤال، لا لأنه غير متوقع، بل لأن سلسلة أفكاره امتدت به طويلاً، ثم تلوت، ثم تشابكت، ثم بدأت بالصراع فيما بينها.. ولا محل لهذا السؤال ضمن السلسلة، ولا محل فيها لجوابه.. فهو وجوابه كامنان في أعماق الذاكرة.. لذا تريث قليلاً، واعتدل في جلسته، وابتسم مجاملاً، ثم قال: أظن أني ذكرت لسيادتكم يوماً ما، أن البروفسور شارل هوفمان كان أغزر المدرسين علماً وأكثرهم موضوعية، وأقدرهم على تحييد العواطف الشخصية عند تحليل موضوع سياسي ما.. وحين أقول ذلك، إنما أقصد المدرسين الذين تعرفت إليهم في جامعة كالفورنيا، التي نلت منها شهادة الدكتوراة في العلوم السياسية..
الرئيس: وهل أثر في نفسك إلى حد كبير؟
زيدان “متضاحكاً”: لقد أشرت إلى علم الرجل وموضوعيته.. أما التأثير النفسي، فإنما يمارس على الأطفال، لا على طلبة شهادات الدكتوراة..
أراد الرئيس أن يحول مجرى الحديث، فقال: هل تعلم من سيأتي الآن؟
قال زيدان: الآن!؟
نظر الرئيس في ساعته وقال: أعني بعد حوالي ثلاثة أرباع الساعة، أي في الساعة الثامنة والنصف تماماً!
قال زيدان متضاحكاً: صحيح أني من أصل عربي كما تعلمون، لكني لا أنتمي إلى مسيلمة.
قال الرئيس ضاحكاً: تعني مسيلمة المتنبئ الكذاب!؟
زيدان: أجل.
الرئيس: أليس لديكم معشر العرب سوى مسيلمة واحد؟
ضحك الرجلان، وقال زيدان: في هذا العصر كثر العباقرة، ونالت كل أمة منهم نصيبها..
ضحك الرجلان مرة أخرى، وقال الرئيس جاداً:
سيأتي سلطان..
تغيرت ملامح زيدان، وابتلع ريقه، ثم تماسك وقال: تعنون سلطان الحداد؟
ابتسم الرئيس، وقد لاحظ الارتباك على ملامح زيدان، وقال: أجل، سلطان، ابن خالتي.. أظن علاقتك به طيبة.. أليس كذلك؟
زيدان: إنه نعم حامي العرين.
قال الرئيس بلهجة مازحة إلا أنها تخفي جدية كبيرة: ولكن مثل هذه العبارة تقال عن قائد الجيش أليس كذلك؟
قال زيدان بابتسامة ذات مغزى: أنتم تعلمون أن بلادنا ليس مهددة بخطر خارجي ولله الحمد..
لقد جر الكلام بعضه بعضاً، بصورة تلقائية دون أن يكلف الرئيس نفسه عناء التدرج في الحديث.. فلينتهز الفرصة إذن، وليبحث عن الحقائق بعناية.. وإذا كان (الرجال صناديق مقفلة)، كما يقول أحد الأمثال، فرجال رئيس الدولة، يجب أن يكونوا صناديق مفتوحة على مصاريعها بالنسبة إليه، لا يخفى عليه منهم شاردة ولا واردة.. بدءاً بآرائهم السياسية، وانتهاء بأذواقهم في انتقاء ألوان أحذيتهم.. إن كلاً منهم سلاح متعدد الحدود، بعض هذه الحدود له وأكثرها عليه.. فإذا اطمأن إلى ما هو له، راقب بحذر كل ما هو عليه، وغلا فالعاقبة وخيمة.. أما هذا الصندوق الذي يجلس أمامه الآن، فوضعه مختلف.. بل ربما كان الآن.. في هذه الساعة، محيراً.. “لقد جئت به قبل سواه إلى هذا المكان لأستشيره، لأستنير برأيه، قبل أن أحدث أي رجل آخر من رجالي.. حتى سلطان ابن خالتي ورئيس جهاز مخابراتي، اعتبرته درجة ثانية من حيث ثقتي به.. فما بال هذا الرجل الآن يحيرني!؟ إن كل كلمة قالها في مجلسه القصير هذا، عدا كلمات المجاملة، ذات مغزى، بل ترشح الإيحاءات المثيرة من أطرافها.. حين سألته عن أمواج البحر وعما فهم منها، قال: “وهل تحدثتم سيادتكم عن شيء ما”.. ماذا يعني هذا؟ ألا يعني أنني لم أخاطبه بالألغاز في يوم ما.. ثم قوله: “أنا لا أحب التجارب المخفقة” أليس له دلالة ما، وهو السياسي الجامعي اللبق، الذي أمضى حوالي عشرين عاماً في العمل السياسي، منها خمس سنوات عمل فيها مستشاراً خاصاً لي بالذات.. ثم قوله: “وأرجو أن أكون عند حسن ظنكم وكبير ثقتكم بي” ألا يعني أن في أعماقه شيئاً ما، يدفعه إلى ضرورة تعزيز الثقة”.. وقوله: “التأثير النفسي إنما يمارس على الأطفال..” ماذا يعني؟ هل يعني أنه اطلع على حالتي بالأمس، وتأثري البالغ بحديث الأزرق، فأحب أن يشير إلى ذلك من طرف خفي؟ ومن يمكن أن يعلمه بذلك؟ السفير؟ أيعقل هذا؟ صحيح أنه تلميذ نجيب للفكر السياسي الأمريكي، ولكن ألست أنا حليفاً لأمريكا كذلك؟ ثم، لم ارتبك وبلع ريقه حين علم بأن رئيس مخابراتي سيحضر بعد قليل؟ وماذا يعني بقوله: “إنه نعم حامي العرين”، مع تأكيده بأن بلادنا ليس مهددة بخطر خارجي..؟ ماذا يعني هذا كله؟ هل يعني أن الرجل ما يزال بالنسبة إلى صندوقاً مغلقاً..؟”.
نظر في وجه زيدان.. إنه رجل في الخامسة والأربعين، أسمر فاتح اللون، متوسط الطول، أنيق الملبس، تبدو عليه سيماء اللطف والدماثة.. عيناه السوداوان عميقتان صافيتان رصينتان، توحيان بالثقة والألفة والهيبة.. نظر إليه جيداً، تفرس فيه، كأنه يتعرف إليه للمرة الأولى.. “غريب هذا الأمر! جئت بالرجل لأستشيره في أعدائي، فإذا أنا أستشير نفسي فيه”.
كان زيدان قد تعود ألا يباد بمحادثة الرئيس، إلا إذا كلمه الرئيس أولاً، باستثناء حالات خاصة، تتطلب منه المبادرة.. وبعد جولته الطويلة اليوم في عالم أفكاره وتساؤلاته، باحثاً عن سبب معقول لاستدعائه في هذه الساعة المبكرة إلى المنزل البحري، دون العثور على جواب مقنع.. وجد أن لا بد من المبادرة، لا سيما أن وضع الرئيس، بحة صوته، شروده، آثار السهر والإرهاق في عينيه.. كل هذا يوحي بشيء ما.. والرئيس لم يفاتحه حتى الآن بشيء..
قال زيدان مبتسماً بلطف:
إن قمة عدم الانحياز على الأبواب، فهل تأمروننا بأن نعد لها شيئاً؟
قال الرئيس متسائلاً بفتور: مثل ماذا؟
لم يتلق زيدان مثل هذا الجواب من قبل، إزاء أي مؤتمر دولي، سواء أكان إفريقياً، أو من مؤتمرات عدم الانحياز، أو غيرها.. كان لدى الرئيس دوماً أشياء بحاجة إلى إعداد قبل أي مؤتمر.. فما السر الآن؟
قال زيدان: دراسة الوفد المشترك مثلاً.. أو إعداد كلمة تلقونها على المؤتمرين..
أحس الرئيس بعروقه تنتقض في أعماقه.. لقد ارتبطت في ذهنه لفظة المؤتمرين بلفظة المتآمرين، فتنحنح بشكل خفيف لكن بصوت أجش، ومد يده فتناول كوب ماء، شرب منه شيئاً وأعاده.. ثم قال: ما يزال الوقت مبكراً، فأمامنا أربعة أشهر فيما أظن.. وبإمكاننا أن نتخذ الاستعدادات اللازمة في وقت لاحق.
قال زيدان: هذه معلومات جديدة تتكرمون بها علينا.
قال الرئيس متسائلاً بجدية: ماذا تعني؟
قال زيدان: إن ما أعلمه هو أن المؤتمر سيعقد بعد ثلاثة أشهر فهل حصل تأجيل لا نعلمه؟
انتفض الرئيس من أعماقه مرة أخرى.. كان قد نسي الموعد الحقيقي للمؤتمر، في زحمة القلق الذي عاناه منذ الأمس.. وحين ذكر له مستشاره مدة الأشهر الثلاثة، ارتبطت في ذهنه مباشرة بحديث السفير: “إن دخول المؤامرة مرحلة التنفيذ لن يكون قبل ثلاثة أشهر”.. الأمر جد إذن.. “الأنذال.. يستغلون فترة غيابي عن البلاد ليطيحوا بي.. سيرى الجبناء كيف أسحق رؤوسهم”.. هذا خيط جديد من خيوط القضية.. وهو خيط رائع على كل حال، إن صح الربط بين موعد المؤتمر وكلام السفير.. إن تحديد الموعد بهذا الشكل يقدم له أشياء كثيرة، منها: التفكير بهدوء، والإعداد بروية وحكمة لسحق المؤامرة.. ومنها إمكانية المناورة، بالاعتذار عن حضور المؤتمر شخصياً في اللحظة المناسبة، لإرباك المتآمرين وإحداث البلبلة في صفوفهم، بعد أن يكونوا قد أعدّوا ترتيباتهم الغادرة.. وسيهرب كثير منهم، ويبادر بعضهم إلى الوشاية بالآخرين، لينجو برأسه.. لكن، من يؤكد قضية الأشهر الثلاثة؟
قال الرئيس مبتسماً: إن ذاكرتك أقوى من ذاكرتي يا دكتور زيدان.. وليس هذا غريباً، فأنا أكبر منك بخمس سنوات.. وأنت تعلم جيداً ما معنى خمس سنوات في ممارسة الحكم في دولة إفريقية كدولتنا..
ضحك الرجلان.. ثم قال الرئيس: حسناً.. سنعد للأمر عدته.. لكن هذه الجلسة ليست مخصصة لذلك.
 
عودة
أعلى