كرامة... قصة قصيرة
سناء عليوي
شاهدها من بعيدٍ في رواق المكتبة، تتجه نحو الرفوف المرصوفة مراجعا ودوريّات وكتبا، تقلب صفحات ذاك الكتاب، أو تعيدا آخرا إلى حيث كان، تشاغل عنها بجرائد المكتبة... أعاد قراءة الجرائد للمرة الثالثة على التوالي، وعي الأخبار، حفظها.. لكنه لم يأت من أجل تلك الجريدة، بل من أجل الباحثة المجدة هناك.
رآها حين استقر اختيارها على أحد المراجع... وحملت منها اثنين تحت إبطها، وتناولت حقيبتها الكبيرة التي ركنتها إلى جنب، توجهت لإحدى الطاولات هناك، وتصفحت الكتب مجددا، ثم فتحت الحقيبة وأخرجت شيئا منها وقبل أن تعدل جلستها، رفعت رأسها إثر ذلك الظل، وطيفٍ لصوت كأنّه همسٌ خجول، رفعت حاجبيها بدهشة:
- أمجد؟!
- هل من الممكن أن نجلس قليلا لنتكلم.
- عفوا... كما ترى أنا مشغولة، ولا أعتقد أن هناك ما يمكننا أن نتحدث عنه، انتهت القصة منذ سنين أربع، ألا تتذكر.
- أرجوك رانيا... أعطني فرصة وحيدة لأتكلم،
قال ذلك وهو يعلم أنه لا يكلم نفس رانيا التي كان يكلمها منذ وقت طويل.
نظرت إليه بنظرة الواثق المنتصر، فكرت أنه لا مجال من حسم الأمور.
- لا بأس إذن، أرجوك أمهلني نصف ساعة لأرتب أموري، انتظر على طاولتك تلك، وسآتيك قريبا إن شاء الله.
أدار ظهره، بعد أن وقف دقيقة كاملة أمامها يقلب البصر بين وجهها وأوراقها وكل شيء، كيف يمكنها أن تكون بهذا الجمود، لم تكن هكذا يوما، رانيا صاحبة سبعة وعشرين ربيعا صخرة جلمود، أما كانت ولا تزال صاحبة القلب الرقيق... أظن ذلك.
جلس إلى طاولته، بينما هي لا تستطيع أن تكتم امتعاضها منه، سيطر الصمت على ملامحها جزءا من الوقت، لملمت أوراقها بعصبية، مدركة أن النطق بالحكم " انتهى " إعلانا أو إسرارا لا يجدي مع أمجد إلا بقليل من الشرح.
قررت أن تسمعه، رغم أنها قد أصدرت حكمها من قبل أن يقابلها، هو في شرعها متهم، وأغلق على حياته معها بابا موصدا ليس يفتح.
ذهب الوقت هباء ولم ترتب أمورها، بل مضى في صراعها مع الذكريات.
منذ أربع سنين كانا ( أمجد و رانيا ) مخطوبين، عملا في معا في إحدى الجمعيات وتقدم رسميّا لخطبتها، وتمت الخطوبة بعد أن بذلت رانيا جهودا كبيرة لإقناع أهلها به، أخبرتهم أنها لا ترى لنفسها سعادة إلا معه، نفس الأحلام، ونفس الاهتمامات، ولا يهم سوى ذلك... فالمطلوب هو التفاهم، التفاهم وحسب.
لكن وقعت مشاكل عديدة، تترامى في جميع الاتجاهات، لا أحد يصدق أنهما وصلا لذاك الاختلاف، أمجد في مشكلة ورانيا لا تريد أن تتخلى عنه رغم كل شيء، هو يحبها ... لن يوقعها في المشاكل معه، لا يريد أن تبدأ حياتهما على الديون فحقا ستكون سوداء تعيسة، وقرر قرارا حاسما " يجب أن يفترقا " ،، ناشدته الله ألا يفعل، رفقا بها وبقلبها، تقديرا لولائها له، للمجهود الذي بذلته ليكونا معا، لقد جادلت لأجله جدالات طويلة مريرة.
ناولها الخاتم، ولا وداع.... اختفى.
وما كان من عائلتها إلا أن تشن حرب العتاب عليها، وجاءوها بشخص من أقاربها، وتزوجته، لم يدم زواجهما أكثر من سنة، قاست طويلا تحت وطأة سكره وعربدته، تعذبت، إلى أن طلقت في النهاية وحملت بجدارة لقب " مطلقة ".
ألقت على الدنيا السلام، رضيت بقدرها، وخضعت لبرنامج طويل من العلاج النفسي، وما إن تعافت أخيرا حتى التحقت ببرنامج الدراسات العليا، وهبت حياتها لذلك.
"لاشيء سيتغير يا أمجد"، حدثت نفسها مغلقة حقيبتها، تركت طاولتها وتوجهت إليه، ووقفت كما لم يقف إليها من دقائق، وقفة المرتجي الآمل.
أزاحت الكرسي وجلست.
- أرجوك بسرعة، فلا وقت لديّ.
نظر إليها، وابتلع ريقه، حاول أن يتلمس بداية الكلام، لكنه وجده تائها كتوهان طرف البداية في كرة الصوف، أراد أن يرتب الكلمات الشعواء، لكنها كانت كصف التلاميذ المشاغبين في طابور الصباح.
صمت دقائق معدودة، نظرت خلالها إلى ساعة الحائط مرات عديدة.
- ألا تريد قول شيء حقا؟
همت بالنهوض.
- لا بل أنت تعرفين،...... ألا تعودين إليّ.
خارت قوى الكلمات، وما نطقت صاحبتها،....... نفذت كل الخطط المعدة من سنين لهكذا موقف.
- لن يجدي ذلك نفعا،،، لا أستطيع.
- أعرف أنك مثقلة بالجراح، لكنني ما زلت أحبك، وسأعوضك عن كل ما فات، عن كل شيء.. فقط ثقي بي.
عند كلمة ثقي بي، توقفت عن التفكير ونظرت في عينيه.
- لم تثق بي ابتداء... كيف تتوقع مني ذلك الآن؟ ألقيت إليّ بالخاتم، ولم تقنع نفسك بأني أهل للوقوف إلى جانبك، آلان؟
- لم أرد أن أوذيك معي.
- لم ترد ذلك.. لكنك فعلت .
تزوجت من غيرك، كان سيئا ولست أدري من كان الأسوأ، ضربني وآذاني.. وربطني إلى طرف السرير كما الدابة، إلى أن جاء من يخلصني، بقيت نصف عام بين الحياة والموت.
أخرجت من الحقيبة شريط الدواء.
- بقيت أشرب المهدئات طويلا، ها هي في الحقيبة معي أيضا، الآن قد أستقر حالي، وعدت نوعا ما إلى حياتي العاديّة، قد تتلف لي ذلك النظام يا أمجد... فرجاء تنحَ.
- أنت تسيرين على نهج أحلامنا يا رانيا، نحن الآن في الدراسات العليا، ألم يكن هذا مما أردنا تحقيقه معا،،، فكري رجاء، أنا أمجد اليوم... وليس الأمس.
- وأنا رانيا اليوم... ولست صاحبة الأمس، ربما أحببتك، بل ما زلت، إنما المنع اليوم هو عين العطاء، علاجي أن لا نكون معا، لا تسألني لِمَ..
حملت حاجتها وخرجت، تركته كما تركها من سنين، حائرة، نادمة، تلوذ بدمعها.
وأغلقت صفحات الماضي كما تغلق المراجع بعد نشرها في المكتبة، نزلت السلم تناولت منديلا ورقيا، مسحت دمع كرامتها الجامح، هي تدرك أن داءها ما زال موجودا، وأن علاجها لم ينته بعد.
المصدر
سناء عليوي
شاهدها من بعيدٍ في رواق المكتبة، تتجه نحو الرفوف المرصوفة مراجعا ودوريّات وكتبا، تقلب صفحات ذاك الكتاب، أو تعيدا آخرا إلى حيث كان، تشاغل عنها بجرائد المكتبة... أعاد قراءة الجرائد للمرة الثالثة على التوالي، وعي الأخبار، حفظها.. لكنه لم يأت من أجل تلك الجريدة، بل من أجل الباحثة المجدة هناك.
رآها حين استقر اختيارها على أحد المراجع... وحملت منها اثنين تحت إبطها، وتناولت حقيبتها الكبيرة التي ركنتها إلى جنب، توجهت لإحدى الطاولات هناك، وتصفحت الكتب مجددا، ثم فتحت الحقيبة وأخرجت شيئا منها وقبل أن تعدل جلستها، رفعت رأسها إثر ذلك الظل، وطيفٍ لصوت كأنّه همسٌ خجول، رفعت حاجبيها بدهشة:
- أمجد؟!
- هل من الممكن أن نجلس قليلا لنتكلم.
- عفوا... كما ترى أنا مشغولة، ولا أعتقد أن هناك ما يمكننا أن نتحدث عنه، انتهت القصة منذ سنين أربع، ألا تتذكر.
- أرجوك رانيا... أعطني فرصة وحيدة لأتكلم،
قال ذلك وهو يعلم أنه لا يكلم نفس رانيا التي كان يكلمها منذ وقت طويل.
نظرت إليه بنظرة الواثق المنتصر، فكرت أنه لا مجال من حسم الأمور.
- لا بأس إذن، أرجوك أمهلني نصف ساعة لأرتب أموري، انتظر على طاولتك تلك، وسآتيك قريبا إن شاء الله.
أدار ظهره، بعد أن وقف دقيقة كاملة أمامها يقلب البصر بين وجهها وأوراقها وكل شيء، كيف يمكنها أن تكون بهذا الجمود، لم تكن هكذا يوما، رانيا صاحبة سبعة وعشرين ربيعا صخرة جلمود، أما كانت ولا تزال صاحبة القلب الرقيق... أظن ذلك.
جلس إلى طاولته، بينما هي لا تستطيع أن تكتم امتعاضها منه، سيطر الصمت على ملامحها جزءا من الوقت، لملمت أوراقها بعصبية، مدركة أن النطق بالحكم " انتهى " إعلانا أو إسرارا لا يجدي مع أمجد إلا بقليل من الشرح.
قررت أن تسمعه، رغم أنها قد أصدرت حكمها من قبل أن يقابلها، هو في شرعها متهم، وأغلق على حياته معها بابا موصدا ليس يفتح.
ذهب الوقت هباء ولم ترتب أمورها، بل مضى في صراعها مع الذكريات.
منذ أربع سنين كانا ( أمجد و رانيا ) مخطوبين، عملا في معا في إحدى الجمعيات وتقدم رسميّا لخطبتها، وتمت الخطوبة بعد أن بذلت رانيا جهودا كبيرة لإقناع أهلها به، أخبرتهم أنها لا ترى لنفسها سعادة إلا معه، نفس الأحلام، ونفس الاهتمامات، ولا يهم سوى ذلك... فالمطلوب هو التفاهم، التفاهم وحسب.
لكن وقعت مشاكل عديدة، تترامى في جميع الاتجاهات، لا أحد يصدق أنهما وصلا لذاك الاختلاف، أمجد في مشكلة ورانيا لا تريد أن تتخلى عنه رغم كل شيء، هو يحبها ... لن يوقعها في المشاكل معه، لا يريد أن تبدأ حياتهما على الديون فحقا ستكون سوداء تعيسة، وقرر قرارا حاسما " يجب أن يفترقا " ،، ناشدته الله ألا يفعل، رفقا بها وبقلبها، تقديرا لولائها له، للمجهود الذي بذلته ليكونا معا، لقد جادلت لأجله جدالات طويلة مريرة.
ناولها الخاتم، ولا وداع.... اختفى.
وما كان من عائلتها إلا أن تشن حرب العتاب عليها، وجاءوها بشخص من أقاربها، وتزوجته، لم يدم زواجهما أكثر من سنة، قاست طويلا تحت وطأة سكره وعربدته، تعذبت، إلى أن طلقت في النهاية وحملت بجدارة لقب " مطلقة ".
ألقت على الدنيا السلام، رضيت بقدرها، وخضعت لبرنامج طويل من العلاج النفسي، وما إن تعافت أخيرا حتى التحقت ببرنامج الدراسات العليا، وهبت حياتها لذلك.
"لاشيء سيتغير يا أمجد"، حدثت نفسها مغلقة حقيبتها، تركت طاولتها وتوجهت إليه، ووقفت كما لم يقف إليها من دقائق، وقفة المرتجي الآمل.
أزاحت الكرسي وجلست.
- أرجوك بسرعة، فلا وقت لديّ.
نظر إليها، وابتلع ريقه، حاول أن يتلمس بداية الكلام، لكنه وجده تائها كتوهان طرف البداية في كرة الصوف، أراد أن يرتب الكلمات الشعواء، لكنها كانت كصف التلاميذ المشاغبين في طابور الصباح.
صمت دقائق معدودة، نظرت خلالها إلى ساعة الحائط مرات عديدة.
- ألا تريد قول شيء حقا؟
همت بالنهوض.
- لا بل أنت تعرفين،...... ألا تعودين إليّ.
خارت قوى الكلمات، وما نطقت صاحبتها،....... نفذت كل الخطط المعدة من سنين لهكذا موقف.
- لن يجدي ذلك نفعا،،، لا أستطيع.
- أعرف أنك مثقلة بالجراح، لكنني ما زلت أحبك، وسأعوضك عن كل ما فات، عن كل شيء.. فقط ثقي بي.
عند كلمة ثقي بي، توقفت عن التفكير ونظرت في عينيه.
- لم تثق بي ابتداء... كيف تتوقع مني ذلك الآن؟ ألقيت إليّ بالخاتم، ولم تقنع نفسك بأني أهل للوقوف إلى جانبك، آلان؟
- لم أرد أن أوذيك معي.
- لم ترد ذلك.. لكنك فعلت .
تزوجت من غيرك، كان سيئا ولست أدري من كان الأسوأ، ضربني وآذاني.. وربطني إلى طرف السرير كما الدابة، إلى أن جاء من يخلصني، بقيت نصف عام بين الحياة والموت.
أخرجت من الحقيبة شريط الدواء.
- بقيت أشرب المهدئات طويلا، ها هي في الحقيبة معي أيضا، الآن قد أستقر حالي، وعدت نوعا ما إلى حياتي العاديّة، قد تتلف لي ذلك النظام يا أمجد... فرجاء تنحَ.
- أنت تسيرين على نهج أحلامنا يا رانيا، نحن الآن في الدراسات العليا، ألم يكن هذا مما أردنا تحقيقه معا،،، فكري رجاء، أنا أمجد اليوم... وليس الأمس.
- وأنا رانيا اليوم... ولست صاحبة الأمس، ربما أحببتك، بل ما زلت، إنما المنع اليوم هو عين العطاء، علاجي أن لا نكون معا، لا تسألني لِمَ..
حملت حاجتها وخرجت، تركته كما تركها من سنين، حائرة، نادمة، تلوذ بدمعها.
وأغلقت صفحات الماضي كما تغلق المراجع بعد نشرها في المكتبة، نزلت السلم تناولت منديلا ورقيا، مسحت دمع كرامتها الجامح، هي تدرك أن داءها ما زال موجودا، وأن علاجها لم ينته بعد.
المصدر